ربما يكون ما أنقله هنا نقطة في بحر، ربما يُنسى بعد قليل؛ إذ ثمة الكثير مما يشبهه ومما هو أقسى منه بكثير.
الأمّ لبنانية ورضيعتها سوريّة. هكذا شاءت الأقدارُ، والأصحّ القول إنها استجابت لإرادةٍ كانت تحلم بها واستطاعت على الرغم من مصاعب عديدة - اجتماعية وقانونية - أن تحوّل حلمها إلى حقيقة. لم يتجاوز عمر الرضيعة تسعة أشهر، وليس لأمّها السفر من دونها. من المحال أن يجرؤ قلب الأم على مجرد التفكير في احتمال كهذا. لكن الأم تتلقّى دعوة للسفر. هناك مؤتمر عن (الاندماج الاجتماعي) يجب أن تحضره، بحكم عملها الإداري. حسناً ما المانع؟ ستصحب ابنتها الصغيرة، هي بضعة أيام لا غير، ثم تعودان معاً.
فرحت الأم، ذاك أنها منذ فترة وجيزة تمكنت أخيراً من استصدار وثيقة سفر رسمية لابنتها (وحده النظام السوري من يمنح وثائق كهذه إلى الآن). انتظرت طويلاً حتى تمكّنت من إنجاز الأمر، ولطالما خشيت من أن ابنتها ربما تبقى من دون جواز سفر. لم يدر بخلدها أن فرصة السفر ستكون قريبة، وظنت أن الأمر مجرد إجراء روتيني، وسرعان ما تحصل على الفيزا، وتخرج بابنتها الرضيعة أول مرة خارج لبنان، في أول رحلة لهما معاً.
صارت الأم تتخيّل ما يمكنها عمله خارج أوقات المؤتمر، وحسبت أنّ البلد المضيف للمؤتمر سيكون جميلاً، وأن طفلتها ستتاح لها فرصة تسعدها وهي في هذه السن الصغيرة.
لكن الأمور لم تجرِ على ما تشتهي الأم. لقد تبيّن ما هو متوقع، فالرضيعة السوريّة، ولأنها سوريّة، يحتاج ملفُّ سفرها إلى دراسة تستغرق شهرين، وعلى الأغلب سترفض السفارة طلب التأشيرة، مع أنّ الوالد قد قدّم إذن سفر رسمياً. والمشكلة الثانية أنّ المؤتمر يُعقد بعد أسبوع، فما العمل؟
تُضطر الأم أخيراً إلى التخلي عن الفكرة نهائياً، وتعتذر عن السفر مرغمة، فيما ينوب أحد زملائها عنها، وتعود هي إلى البيت مستاءة وحزينة وناقمة. تنظر في عيني ابنتها الصغيرة: "أنتِ تشكلين خطراً على الأمن!". ثم تحاول أن تضحك كي تخفف عن نفسها قليلاً، وتلاعب ابنتها.
سيقول الأب كي يخفف بدوره عن الأم صدمتها "ربّ ضارة نافعة". تردّ الأم "أي نفع تقصد، لقد راجعتُ السفارة ثلاث مرات، وخسرت ثمن بطاقة حجز الطائرة، وفي الأخير... نافعة!".
يعلم الأب أن سجناً جديداً بدأ يشيد جدرانه من حول عائلته الصغيرة، إذ سبق أن قوبلت محاولات السفر وطلب اللجوء بالرفض الفوري. هنا الآن سجن جديد صغير، سجن يحاصر هذه الطفلة، أو ربما هو وهي شيءٌ واحدٌ ينموان معاً. والأب لم يفصح لزوجته عما جال في ذهنه من صور قاتمة في تلك اللحظة.
اقــرأ أيضاً
الأمّ لبنانية ورضيعتها سوريّة. هكذا شاءت الأقدارُ، والأصحّ القول إنها استجابت لإرادةٍ كانت تحلم بها واستطاعت على الرغم من مصاعب عديدة - اجتماعية وقانونية - أن تحوّل حلمها إلى حقيقة. لم يتجاوز عمر الرضيعة تسعة أشهر، وليس لأمّها السفر من دونها. من المحال أن يجرؤ قلب الأم على مجرد التفكير في احتمال كهذا. لكن الأم تتلقّى دعوة للسفر. هناك مؤتمر عن (الاندماج الاجتماعي) يجب أن تحضره، بحكم عملها الإداري. حسناً ما المانع؟ ستصحب ابنتها الصغيرة، هي بضعة أيام لا غير، ثم تعودان معاً.
فرحت الأم، ذاك أنها منذ فترة وجيزة تمكنت أخيراً من استصدار وثيقة سفر رسمية لابنتها (وحده النظام السوري من يمنح وثائق كهذه إلى الآن). انتظرت طويلاً حتى تمكّنت من إنجاز الأمر، ولطالما خشيت من أن ابنتها ربما تبقى من دون جواز سفر. لم يدر بخلدها أن فرصة السفر ستكون قريبة، وظنت أن الأمر مجرد إجراء روتيني، وسرعان ما تحصل على الفيزا، وتخرج بابنتها الرضيعة أول مرة خارج لبنان، في أول رحلة لهما معاً.
صارت الأم تتخيّل ما يمكنها عمله خارج أوقات المؤتمر، وحسبت أنّ البلد المضيف للمؤتمر سيكون جميلاً، وأن طفلتها ستتاح لها فرصة تسعدها وهي في هذه السن الصغيرة.
لكن الأمور لم تجرِ على ما تشتهي الأم. لقد تبيّن ما هو متوقع، فالرضيعة السوريّة، ولأنها سوريّة، يحتاج ملفُّ سفرها إلى دراسة تستغرق شهرين، وعلى الأغلب سترفض السفارة طلب التأشيرة، مع أنّ الوالد قد قدّم إذن سفر رسمياً. والمشكلة الثانية أنّ المؤتمر يُعقد بعد أسبوع، فما العمل؟
تُضطر الأم أخيراً إلى التخلي عن الفكرة نهائياً، وتعتذر عن السفر مرغمة، فيما ينوب أحد زملائها عنها، وتعود هي إلى البيت مستاءة وحزينة وناقمة. تنظر في عيني ابنتها الصغيرة: "أنتِ تشكلين خطراً على الأمن!". ثم تحاول أن تضحك كي تخفف عن نفسها قليلاً، وتلاعب ابنتها.
سيقول الأب كي يخفف بدوره عن الأم صدمتها "ربّ ضارة نافعة". تردّ الأم "أي نفع تقصد، لقد راجعتُ السفارة ثلاث مرات، وخسرت ثمن بطاقة حجز الطائرة، وفي الأخير... نافعة!".
يعلم الأب أن سجناً جديداً بدأ يشيد جدرانه من حول عائلته الصغيرة، إذ سبق أن قوبلت محاولات السفر وطلب اللجوء بالرفض الفوري. هنا الآن سجن جديد صغير، سجن يحاصر هذه الطفلة، أو ربما هو وهي شيءٌ واحدٌ ينموان معاً. والأب لم يفصح لزوجته عما جال في ذهنه من صور قاتمة في تلك اللحظة.