تحويل الحقد والغضب من الجيش إلى طرف ثانٍ هو ما يعرف بـ"الكيان الموازي" وزعيمه، الحليف السابق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رجل الدين المثير للجدل، فتح الله غولن، يبقى قراراً بخلفية "وطنية" لمحاولة تخفيف الانقسام في البلد، وللحؤول دون تفاقم الغضب الشعبي ضد المؤسسة العسكرية. وبالفعل، ظهر أن المؤسسة العسكرية بقياداتها الرئيسية والعليا الممثلة في هيئة الأركان، لم تكن متورطة في المحاولة الفاشلة، وهو ما اهتمّ المسؤولون باختصاره وفق عبارة "مجموعة صغيرة لا تمثل الجيش"، على عكس ما كان يحصل في الانقلابات السابقة، إذ كانت مدبّرة ومنفّذة من الجيش كمؤسسة بقيادتها وعناصرها رسمياً. أكثر من ذلك، حتى ولو كانت المؤسسة متورطة رسمياً (وهو ما لم يكن عليه الحال)، لا يستطيع حكام أنقرة تأليب الشعب ضدها، فهذا خيار انتحاري. على كل حال، فإن استراتيجية أردوغان تقوم على استمالة الجيش وحصر دوره بحدود الأمن القومي، لا معاداته وتأليب الشعب ضده. ويبدو أن المسؤولين الأتراك مقتنعون فعلاً بعدم وجود أيادٍ خارجية في محاولة الانقلاب، بالتالي استحالت تعبئة الرأي العام ضد عدو خارجي ما.
أكثر من ذلك، فإن موقف أحزاب المعارضة الثلاثة في الرفض القاطع للانقلاب، جعل من المستحيل وضع ما حصل في خانة مخططات المعارضة وأحزابها. وبطبيعة الحال، ليس وارداً بالنسبة لحكام أنقرة زيادة حدة الاستقطابات العرقية (أكراد/أتراك)، والمذهبية أحياناً (علويون/سنة)، من خلال توجيه اتهام أخرق من شأنه تفجير حرب أهلية في هذا البلد.
أمام هذه الوقائع، احتاجت محاولة الانقلاب، نظراً لحجمها الكبير ولخطورتها (يقال إن قادة الانقلابيين الـ37 أمضوا ستة أشهر في التخطيط)، إلى متهَم "كبير" في انتظار اكتمال التحقيقات مع المعتقلين الذين بلغ عددهم حتى يوم الأحد أكثر من 6 آلاف في مختلف القطعات العسكرية والقضائية. وفتح الله غولن وجماعته مادة دسمة لتكون هي الجهة المتهمة من قبل أردوغان ورفاقه منذ اللحظة الأولى لبدء مسلسل الساعات الخمس وقبل معرفة مصير المحاولة الانقلابية حتى. فالجماعة وزعيمها قررا، من خلال شبكة العلاقات والدعاوى القضائية وإعلامها وشبكاتها في المؤسسات الحساسة (الجيش والشرطة والقضاء) إعلان الحرب الشاملة على أردوغان، منذ العام 2013، لأن الأخير اختار حليفه وصديقه، مدير جهاز الاستخبارات حقان فيدان، عدو غولن، على حساب مواصلة التحالف مع زعيم "الخدمة". فحصل الطلاق عبر تحشيد "الخدمة" الرأي العام ضد الرجلين والحكومة عموماً، بحملة كبيرة جداً تحت عناوين "فساد" أردوغان ووزرائه وأفراد عائلته، و"الإرهاب" (على خلفية لقاء حقان فيدان مع قيادات من حزب العمال الكردستاني في إطار محاولة الحكومة إبرام سلام مع الحركة القومية الكردية المسلحة في حينها).
لكن الطلاق بين غولن وأردوغان بدأت بوادره تظهر قبل ذلك، منذ أن اعتبر غولن أن إرسال سفينة مافي مرمرة التركية عام 2010 إلى شواطئ غزة، كان قراراً سيئاً للغاية، وحمّل أردوغان مسؤولية دماء المواطنين الأتراك الذين سقطوا. وشنّ حملة دفاع غير مسبوقة عن إسرائيل وجريمتها، هو المعروف أصلاً بعدم مناصبة دولة الاحتلال العداء تحت شعارات "الإنسانية" و"المحبة"، وباقي مصطلحات وأدبيات التيار الصوفي الذي تنتمي إليه حركته.
صحيح أن غولن، الملياردير ذا الـ75 عاماً، لديه رجال بالفعل في مختلف المؤسسات الحساسة في تركيا، الأمنية والقضائية خصوصاً، إلا أن كثيرين يعتبرون أنه غير قادر على إدارة انقلاب كالذي حصل ليل الجمعة ــ السبت، تحديداً بعدما تمّت "التصفية القضائية" لعدد هائل من المحسوبين على حركته، في العامين الماضيين. وتتحدث الأرقام الرسمية عن سجن 1800 شخص بينهم 750 ضابط شرطة و80 جندياً في إطار الحملة على حركة غولن (قبل محاولة الانقلاب الأخيرة)، بينما لا يزال حوالى 280 شخصاً في السجن ينتظرون محاكمتهم.
إنْ كان غولن خسر هذا العدد الهائل من المتهمين بالولاء له، هل لا يزال قادراً على التخطيط لمحاولة انقلاب بهذا الحجم؟ كل ذلك حتى من دون تصديق تصريحاته بالضرورة، يوم السبت، لصحافيي "نيويورك تايمز"، والتي سخر فيها من اتهامه بتدبير محاولة الانقلاب، قائلاً: "أنا لا أعرف من هم الموالون لي، والمحاولة الانقلابية يمكن أن تكون دبرتها المعارضة أو القوميون" (الذين نددوا بالمحاولة على كل حال). وتابع غولن، تعليقاً على الاتهام الموجه إليه ولحركته: "أعيش بعيداً عن تركيا منذ 30 عاماً، ولست من هذا النوع". وساير غولن نظرية المؤامرة التي تروّج لها وسائل إعلام عربية مؤيدة لمحاولة الانقلاب، فلم يستبعد "أن يكون أردوغان نفسه هو من دبر المحاولة الانقلابية بقصد تثبيت دعائم حكمه"، وهي نظرية يضعها كثيرون تحت شعار "عنزة ولو طارت".
ومن شأن اتهام غولن وحركته من قبل السلطات التركية بالوقوف خلف محاولة الانقلاب أن يحصد عدداً من المكاسب، وأن يوفر كماً من التوترات. ويختصر الاتهام بأنه لا يخسِّر أردوغان شيئاً، بينما يُكسبه أشياء. أولاً، إن اتهام هذا الطرف لن ينتج انقساماً شعبياً، لأن حالة غولن ليست حركة جماهيرية شعبية علنية في تركيا، خصوصاً بعد تصفية عدد هائل من المؤسسات التي كانت تتبع لحركة الخدمة، وأصوات الموالين للرجل في أي انتخابات تقدَّر بـ2 في المائة بالحد الأقصى.
ثانياً، إن الاتهام الموجه لغولن ولحركته يتيح لأردوغان وفريق عمله التخلص من عدد كبير من الانقلابيين الافتراضيين المستقبليين في صفوف الأجهزة الأمنية والعسكرية، أكانوا من جماعة غولن أو لا علاقة لهم به.
ثالثاً، مكّن الإجماع الحزبي غير المسبوق الذي تسبب به انقلاب الساعات الخمس، وقصف مبنى البرلمان للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية، وقصر الرئاسة، والـ265 قتيلاً الذين سقطوا، نصفهم عسكر ونصفهم الآخر تقريباً مدنيون، ومشاهد الاقتتال، أردوغان وفريق عمله من تأمين غطاء حزبي ومعنوي لحملة التخلص (ليس جسدياً) من عدد كبير من البؤر التي لم يقدر على إطاحتها في حملاته المستمرة منذ العام 2007، في ما يسمى "الدولة العميقة"، التي كانت موجودة وحاكمة قبل غولن وبعده، في الأمن والاقتصاد والعسكر والقضاء والإعلام.
آلاف الضباط والقضاة والسياسيين والإعلاميين ورجال الأعمال والفنانين والمشاهير الذين تمت إطاحتهم قانونياً في قضايا "المطرقة" و"إرغينيكون"، لا يزال هناك غيرهم الكثير في تركيا ممن يعتبرون أنهم فوق الدولة وفوق الدستور والأحزاب، وأنهم يستطيعون تنفيذ محاولة انقلاب، وقد وصل الدور لإقصائهم، وإن كان حتى مؤيدو أردوغان يعترفون بأن انتقاماً سياسياً سيتخلل حملة التوقيفات الجارية منذ لحظة إعلان إحباط الانقلاب.
الخشية من تسلط أردوغان وزيادة قبضته الحديدية بحجة أوضاع الطوارئ، حقيقية وجدية، بغض النظر عن هوية من تصدر عنهم دروس الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، حكاماً كفلاديمير بوتين، أو صحافيين كأبواق الانقلاب في مصر ومسؤولي بروباغاندا بشار الأسد ونظامه. ويصعب أن يدوم صمت أحزاب "الشعب الجمهوري"، و"الحركة القومية"، و"الشعوب الديمقراطي"، إزاء الاعتقالات الجماعية الجارية. لكن نشوة البيان المشترك، الذي صدر في الجلسة التاريخية للبرلمان، مساء السبت، للمرة الأولى في التاريخ، بتوقيع حزب "العدالة والتنمية" الحاكم والأحزاب الثلاثة المعارضة له، لا تزال صامدة، ولا يزال كمال كليتش دار أوغلو، ودولت بهشلي، وصلاح الدين ديميرتاش معلنين الهدنة مع "العدالة والتنمية" وأردوغان الذي استحدث شعار "رابعة" تركية بمعادلة: شعب واحد، وعلم واحد، وجيش واحد، وبلد واحد.