فيما تتفاقم مِحنة ألاف الأسر السورية المُحاصرة من قبل قوات النظام ومليشياته في الأطراف الجنوبية من مدينة حلب، بدأت هذه القوات والمليشيات تعيث فساداً داخل أحياء شرق حلب، بعدما تسبب هجومها منذ منتصف الشهر الماضي بكارثة إنسانية، طاولت أكثر من ربع مليون مدني. وفي وقت كانت فيه المليشيات الإيرانية تعرقل تنفيذ اتفاق خروج آمن للمدنيين ولمقاتلي المعارضة السورية نحو ريف حلب ومحافظة إدلب، كان عناصر قوات النظام والمليشيات المساندة لها يرتكبون جرائم من نوع آخر، من خلال استباحة الأحياء التي سيطروا عليها أخيراً، ونهب أثاثات بيوتها، في إطار ما بات يعرف محلياً في سورية بـ"التعفيش".
وتفيد شهادات حصلت عليها "العربي الجديد" من حلب، بأن معظم الأحياء التي سيطرت عليها قوات النظام بمساندة مليشيات محلية وأجنبية شرقي المدينة منذ السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، استُبيحت من قبل عناصر المليشيات.
وخلال الأيام القليلة الماضية، انتشرت على صفحات معارضة في مواقع التواصل الاجتماعي، مشاهد فيديو وصور، لمدنيين في أحياء حلب الشرقية أو الجنوبية الشرقية، التي كانت تحت سيطرة المعارضة، أثناء قيامهم بحرق بعض ممتلكاتهم، كالسيارات مثلاً، قائلين إنهم أقدموا على ذلك ليقينهم التام، بأن ما سيخلفونه وراءهم بعد تهجيرهم سيؤول إلى السرقة، وبالتالي فإنهم يبررون إقدامهم على إتلاف ما يملكون، لحرمان من شردوهم وتسببوا بمحنتهم من الاستفادة مما سيتركونه بعد التهجير.
وقد أقدم بعض السكان المحليين على إتلاف ما تبقى لهم من ممتلكات، بعدما دمر القصف معظم الأحياء التي خسرتها المعارضة في الفترة الأخيرة، لأنهم يدركون أمرين اثنين: الأول يتمثل في أن معظمهم يشعرون بأنهم قد لا يعودون لمناطقهم أبداً؛ والثاني يتمثل في ما ألفوه وعرفوه من قصص "التعفيش" في الأحياء التي هجرتها قوات النظام سابقاً في حلب وغيرها. لذلك يدرك هؤلاء السكان أنهم حتى ولو عادوا بعد حين، لن يبقى أثاث بيوتهم وممتلكاتهم على حاله، لأن التجارب أثبتت أنه لم تدخل قوات النظام ومليشياته سابقاً إلى أي منطقة كانت تحت سيطرة المعارضة، إلا واستباحتها بالكامل.
"تعفيش" كل ما أمكن حمله
وتقول الناشطة الإعلامية نصرة الحلبي، التي نزحت من مدينة حلب، إن جميع المجموعات التابعة للنظام أو المساندة له، تُعتبر إما فاعلة تماماً أو شريكة على الأقل في سرقة ممتلكات المدنيين واستباحتها. لكن "قوات النظام بصورة رئيسية، والمليشيات المحلية التي جندها للقتال معه، تُعتبر المستفيد الأول من التعفيش". وتضيف أنهم "يحملون كل ما استطاعوا أخذه من أثاثات المنازل، لا سيما الأدوات الكهربائية المنزلية (برادات-غسالات وما شابه) لبيعها في أسواق خاصة وُجدت لهذه الغاية". وتؤكد الناشطة في شهادتها لـ"العربي الجديد" عن ممارسات "التعفيش" التي تمت في الأيام الأخيرة، أن هذه القوات والمليشيات "نهبت ما تبقى من منازل غير مدمرة، في أحياء حلب القديمة وبستان القصر والكلاسة وقاضي عسكر ومنطقة جسر الحج وغيرها"، مشيرة إلى أن ذلك يتم "بشكل علني". وتابعت أن هذه القوات تصطنع ما يُمكن تسميته بمنطقة عسكرية، في الأيام الأولى لسيطرتها على المناطق التي كانت خارج نفوذها، فتمنع الدخول إليها "لتستغل حالة الاشتباكات التي هي قائمة أو انتهت للتو، وتنهب ممتلكات الناس براحتها قبل أن تستقر الأمور، التي من الممكن أن تدفع بعض المدنيين للعودة إلى بيوتهم".
ويقول المواطن محمود الراوي، والذي نزح مع أفراد أسرته من حي الكلاسة إلى حي المشهد قبل نحو أسبوع، إن "ظروف النزوح مع القصف والمعارك القائمة، لم تسمح لنا أن نحمل معنا أكثر من مقتنياتنا الشخصية، ونحن أساساً لا نعلم إن كنا سنتمكن من العودة أم لا". وأضاف "لكني أعلم بأنه وفي حال كُتب لي العودة مع عائلتي، فإن بيتي الذي نجا من مئات الغارات الجوية، سيكون خاوياً تماماً من أي أثاث".
وروى شهود آخرون لـ"العربي الجديد" وقائع أخرى مماثلة، ومن بينها ما ذكره الناشط عبدو خضر في وقت سابق، من أن "عناصر الشبيحة يقومون بعمليات سرقة وتعفيش واسعة في الأحياء الشرقية التي سيطروا عليها أخيراً، تحديداً في حي طريق الباب". وأكد أن المليشيات استولت على بيته وبيت أهله، ومنعت إحدى قريباته "التي حاولت زيارة البيت، من دخوله، بحجة أنه يخصّ مسلحين، كما تقاسم الشبيحة وعناصر المليشيات الأحياء في ما بينهم، وتقوم كل مجموعة بالسطو على قطاع من البيوت في المنطقة"، بحسب تأكيده.
وهذه الممارسات باتت معروفة من قبل الجميع في سورية ويتداولها ناشطون موالون للنظام، على مواقع التواصل الاجتماعي بنوع من الشماتة بالحاضنة الشعبية للمعارضة. ويقول أحد المعلقين إن هذا "عقاب كل من خرج عن بيت الطاعة لـ(بشار) الأسد"، كما أن قوات النظام نفسها، تظهر أحياناً بمظهر المتفاخر باستباحة الأحياء التي كانت تسيطر عليها المعارضة السورية. وقد ظهر فيديو قبل نحو أسبوعين، تم تصويره في حافلة تحمل العشرات من قوات النظام، أثناء توجهها لحي سليمان الحلبي الذي كانت تسيطر عليه المعارضة السورية، ويظهر كيف كان العناصر يتفاخرون أثناء التصوير بأنهم سينهبون كل ما أمكن حمله والاستفادة منه، عند دخولهم للمناطق التي كانت تابعة للمعارضة.
ويعتقد بعض الناشطين السوريين المعارضين للنظام، بأن الأخير يترك لقواته وبعض مليشياته التي تدخل مناطق المعارضة بعد قتال، حرية التصرف في هذه المناطق من دون ردعهم عن نهبها، كـ"جائزة" على خوضهم للمعارك، ولتحفيزهم كذلك للاندفاع نحو مناطق أخرى مماثلة. ويُمكن القول إن استباحة قوات النظام لمناطق سيطرة المعارضة بعد خروج الفصائل المسلحة منها يُعتبر ضمناً لدى النظام أمراً مشروعاً، بل ربما يتم تشجيعه أيضاً. لكن ظاهرة "التعفيش" من قبل مجموعات مسلحة تابعة للنظام، وصلت الشهر الماضي، لمناطق خاضعة لسيطرة النظام نفسه جنوب غربي حلب. وهذا التحول أثار حينها ضجة واسعة من قبل الموالين الذين عبّروا عن استيائهم من "عدم انضباط" هذه المجموعات التي يؤيدونها. وطالبوا حينها بـ"وضع حد لعمليات التعفيش".
وظهرت موجة استياء الموالين للنظام من "التعفيش" فقط عندما وصلت هذه الظاهرة لمناطق ليست تحت سيطرة المعارضة، وتقع جنوب غربي حلب. وقد استغلت مجموعات مسلحة تابعة للنظام، أبرزها "صقور الصحراء" و"درع الأمن العسكري"، وجود خط جبهة مع المعارضة، في مناطق الراموسة ومشروع 1070 شقة، و3000 شقة، وحي الحمدانية، لتقوم بعمليات نهب واسعة في هذه المناطق، التي يسيطر النظام السوري منذ سنوات عليها، وإنْ كان خسر جزءاً منها في معارك مع المعارضة اندلعت خلال الأسابيع الماضية، قبل استعادته لها. بمعنى آخر، تعكس ردود الفعل هذه موقفاً استنسابياً، مفاده أن التعفيش يعتبر، في نظر البعض، غير شرعي في مناطق موالية للنظام، وشرعياً في مناطق سيطرة المعارضة السورية، إذ لم يبد معارضو "التعفيش" في مناطق النظام أي امتعاضٍ من ممارسات مماثلة في مناطق المعارضة.