فشل اللاجئ ماجد عبد العزيز، في اجتياز إحدى قنوات تصريف المياه الواقعة على جانبي الجدار العازل بين الحدود السورية التركية، إذ اكتشفت قوات حرس الحدود التركي (الجندرما)، العائلات العشر التي كانت معه، إثر بكاء طفلة، أعقبه وابل من الرصاص انطلق باتجاههم، ليتفرق شملهم في ثوان ويهرب كل منهم عائداً من حيث أتى، "دون أن نعرف من مات ومن أصيب"، كما يقول لـ"العربي الجديد"، بينما يتذكر بأسى ضياع ماله في تلك المحاولة الفاشلة، التي جرت في شهر يناير/كانون الثاني 2019.
وتفادياً لرعب الرحلة وخطورة الطريق، اتفق ماجد مع مهرب آخر ذهب معه في محاولته الثانية، التي بدأت من مدينة أعزاز ومنها إلى قرية سجّو، ثم اتجهوا غرباً نحو قرى منطقة عفرين، ومن هناك أقلتهم سيارة أخرى، نحو قرية دير صوان التابعة لمحافظة حلب شمال سورية، متجاوزين الأحراش الزراعية، ثم صعدوا باتجاه قمة الجبل، وعند الساعة الرابعة فجراً، نصب المهرب، سلماً على الجدار العازل البالغ طوله ثلاثة أمتار، وصعد لقص السلك الشائك، ثم أعقبه ماجد وآخرون في سرعة وبدون إحداث جلبة تكشف وجودهم كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفاً: "بعد نزولنا من الجدار قابلنا مهرب آخر باتفاق مع المهرب الأول في قرية تابعة لمدينة كلس جنوب تركيا".
ويمتد الجدار العازل على الحدود المشتركة من محافظة إدلب شمال سورية حتى جبال اللاذقية، مروراً بشمال حلب، ومدينة الرقة، وانتهاء بمدينة القامشلي في الجهة الشمالية الشرقية على الحدود مع تركيا بطول أكثر من 800 كيلو متر، كما يقول عصام سطوف، المهرب السابق والذي توقف عن ذلك العمل لخطورته، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "في كل 10 كيلو متر تقريباً توجد قناة لتصريف المياه المتجمعة على جانبي الجدار. لكنها لا تستخدم كلها للتهريب، بل يتم اختيار القنوات الواقعة في النقاط الرخوة، لتكون الرقابة التركية فيها ضعيفة، كونها مناطق وعرة، مثل عفرين.
وبسبب خطورة مسار التهريب عبر تلك القنوات، تعرض لاجئون للقتل أو الإصابة بالرصاص فور خروجهم منها، فيما مات آخرون غرقاً، بحسب سطوف، الذي رافق 3 فتيات وأمهن مطلع عام 2019 أثناء محاولتهن العبور إلى الأراضي التركية، وهي آخر مرة يتجرأ فيها على ممارسة ذلك العمل بسبب تعرضهم لإطلاق نار أدى لإصابة الفتيات ومقتل الأم.
مسارات متعددة للتهريب
فاقم إغلاق الحدود السورية التركية منتصف عام 2015 من مخاطر وتكاليف تهريب اللاجئين الباحثين عن الأمان وأبسط مقومات الحياة وفق ما وثقته معدة التحقيق عبر إفادات 6 لاجئين، ومنهم ماجد الذي نجا من رصاصات الجندرما بعد أن سلك طريقاً يمتد إلى إحدى قنوات التصريف الموحلة والمعتمة والتي تداهمها السيول، خاصة في فصل الشتاء، ما يتسبب بحالات غرق للعابرين بسبب ارتفاع منسوب المياه بداخلها، قائلاً: "كان يفصل بيننا وبين الطرف الآخر وادٍ عميق، كان علينا الهبوط وأن نقطعه حتى نصل إلى الشارع المعبد"، مضيفاً: "هناك تلعب بعداد أعمارنا الصدفة وعيون الجندرما ورصاصاتهم المباغتة لو اكتشفوا محاولتنا والمحظوظ من يُعتقل وتجري إعادته".
وفي محاولة لتقليل مخاطر الرحلة، يلجأ بعض المهربين إلى طرق بديلة عبر المناطق الجبلية، في "عفرين، وريف حلب، وإدلب"، والتي يتم من خلالها تهريب اللاجئين عبر صعود الجدار العازل، رغم صعوبة الأمر بحسب سطوف، مشيراً إلى أن أي نقطة فيها مراقبة ضعيفة، تكون ملاذاً آمناً للمُهرب.
ومن تلك النقاط الرخوة والنشطة في عملية التهريب، قرية الدرية في بلدة دركوش وخربة الجوز التابعتان لجسر الشغور بمحافظة إدلب، وعلى نهر العاصي، فضلاً عن طرق فرعية بجوار معبر باب السلامة (معبر حدودي هام، يربط بين ريف حلب وتركيا)، ومناطق غصن الزيتون شمال سورية، وبلدة جنديرس جنوبي غربي مدينة عفرين كما يقول محمد صلاح، المهجّر من الغوطة الشرقية بعد نزوحه قبل أكثر من عام إلى سهل الغاب في محافظة حماة ومنها إلى مدينة الدانا التابعة إدارياً لمحافظة إدلب، مضيفاً أنه استطاع العبور إلى تركيا في محاولته الثالثة عبر صعود الجدار العازل.
رحلة تهريب صلاح التي يصفها بالناجحة، كانت شاقة للأربعينية فدوى عبدالستار، والتي انطلقت من مدينة أعزاز، سيراً على الأقدام لتمر على مناطق موحلة ووعرة، وتخوض تجمعات مائية على الجانب السوري، في ظل طقس بارد ممطر لمدة 10 ساعات، قبل أن يصلوا إلى الجدار العازل الذي أمضوا بجانبه 12 يوماً في انتظار اللحظة المناسبة لاجتيازه إلى الجانب التركي نهاية فبراير/شباط الماضي، كما تقول لـ"العربي الجديد".
تكاليف مرتفعة
يتفق اللاجئ مع المهرب على دفع مبلغ مالي، كما يتحمل جميع مصاريف الرحلة منذ نقطة الانطلاق وحتى الوصول إلى نقطة الوصول. ويبقى مبلغ الرحلة مع طرف ثالث، لعدم استغلال المهرب للاجئ أو غدره به أو تهرب اللاجئين غير الشرعيين من الدفع بعد وصولهم إلى تركيا، وفق ما وثقته معدة التحقيق عبر إفادات اللاجئين، ومنهم فدوى التي ترى أن المعضلة الأساسية، تتركز في إيجاد مهرب يمكن الوثوق به، ومعروف هويته لأن المهربين لا يعطون أسماءهم الحقيقية للزبائن، قائلة: "نسلم حياتنا وأطفالنا لمجهول يتحكم بنا في رحلة نجهل ما ينتظرنا فيها"، وهو ما اختبرته في رحلتها كما تقول، وتتابع لدى وصولنا إلى الحدود السورية التركية، تم وضعي مع أطفالي الأربعة وزوجي في منزل، ضمن 50 شخصاً بينهم نساء وأطفال، كلهم كانوا يأملون في نجاح رحلة "مكلفة وخطيرة جداً".
ورغم تلك الخطورة فإن فدوى وعائلتها كانوا مضطرين للمحاولة، بسبب الاستهداف المتصاعد منذ بداية العام لمنطقة الدانا، حيث كانوا يقيمون، ما تسبب بموجة نزوح جماعي. وضاعف من يأسها إصابة منزلها بالقصف وتدمير مدارس أبنائها.
وتبدو كلفة الرحلة الكبيرة فيما تكبده اللاجئ صلاح والذي تواصل مع مهرب يعرفه في قرية الحمامة التابعة لجسر الشغور في إدلب، اتفق معه على دفع 1200 دولار أميركي عن كل فرد من عائلته المكونة من 3 أفراد، لكنه فشل في محاولتين. فتوجه لمهرب آخر في بلدة دركوش، كما يقول، مضيفاً لـ"العربي الجديد" :"نجحت المحاولة الثالثة ودفعت 700 دولار عن الشخص الواحد من عائلتي".
وتختلف كلفة التهريب حسب الأعمار ومنافذ العبور وصعوبات الطريق وفق ما يقول المهرب أبو فاضل والذي يعمل في إدلب، (اسم مستعار طلب تعريفه به)، مؤكداً أن القيمة تقل عندما يكون اللاجئ شاباً وتبدأ من 600 دولار، نظراً لسهولة حركة الشباب وقدرتهم على اجتياز الطرقات الصعبة، وترتفع القيمة في حالة تهريب العائلات.
ويطلب المهرب السوري فرج الغوطاني (اسم مستعار كما اشترط للموافقة على الحديث)، 1400 دولار عن كل شخص، و450 دولاراً عن الطفل الواحد، وفق ما أكده لمعدة التحقيق عبر تطبيق "الواتساب" باعتبارها زبونة محتملة، ترغب باللجوء إلى تركيا، مفسراً سبب ارتفاع التكاليف بالنسبة للعائلات، بصعوبة الأمر خاصة على النساء والأطفال وعدم تحمل الطريق.
ماذا يحدث في المعابر الرسمية؟
في عام 2019، وصلت ذروة عمليات الإعادة والترحيل للسوريين عبر معبر باب الهوى (يقع على الطريق الرئيسي السوري M45 وعلى الطريق الرئيسي التركي D827 بين مدينتي إسكندرون وحلب)، إذ بلغ عدد المرحلين 64 ألف شخص بحسب مسؤول العلاقات العامة في المعبر، مازن علوش، والذي أكد لـ"العربي الجديد" أن العدد تراجع إلى 13 ألف شخص خلال العام الجاري، منذ بدايته وحتى يونيو الماضي، مشيراً إلى أن أعداد المعادين يومياً عبر معبر باب الهوى وصل إلى 300 شخص قبل تفشي وباء كورونا عالمياً وإغلاق الحدود.
وبلغ عدد من تم إلقاء القبض عليهم من قبل حرس الحدود التركي وتمت إعادتهم، عبر معبر باب السلامة، 6548 شخصاً في عام 2019 و5951 شخصاً حتى نهاية يوليو/تموز 2020، وفق ما ذكره العميد قاسم القاسم مدير معبر باب السلامة، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن عدد من تم القبض عليهم وجرت إعادتهم عبر المعبر في شهري مايو، ويونيو من العام الماضي، 922 شخصاً (682 في مايو و240 في يونيو). فيما تراجع العدد في ذات الشهرين من العام الجاري إلى 109 أشخاص (53 في مايو و56 في يونيو). لكنه يقول إن عمليات القبض على هاربين لم تتوقف.
وتتوفر إمكانية للتهريب عبر المعابر الرسمية، كما حدث مع جلال سليمان (عمل مراسلاً لقناة الجزيرة في الشمال السوري)، والذي فشل في الحصول على إذن رسمي لدخول الأراضي التركية، لدى محاولته مغادرة مكان إقامته في إدلب بعد تهجيره من حمص، نتيجة تعرضه لحادثة اختطاف وابتزاز وتهديد من قبل هيئة تحرير الشام على خلفية عمله الإخباري، ما دفعه للخروج باتجاه تركيا ومنها نحو أوروبا، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أنه دفع 3 آلاف دولار لأحد المهربين، مقابل نقله بطريقة غير شرعية إلى تركيا عبر معبر باب الهوى الحدودي،ليمر عبر سيارة خاصة من المعبر دون أن يعترضها أحد من حرس الحدود، كون الجميع حصلوا على حصتهم من المبلغ المدفوع وفق اعتقاده.
وترتفع تكلفة التهريب عبر تلك المعابر، وتتراوح ما بين 2800 و3 آلاف دولار، بحسب تأكيد فرج الغوطاني، موضحاً أن نجاح العملية يتطلب الحصول على إذن عبور. لكنه يلفت إلى أن الإذن ليس من جهة رسمية بل يتم بالاتفاق مع عسكري أو مهرب على الطرف الآخر داخل تركيا لتغطية العبور غير الشرعي.
لكن علوش يقول إن للأتراك وحدهم الحق بمنح إذن الدخول إلى أراضيهم عبر المعابر الرسمية حيث تمنح الموافقة لفئة محدودة جداً من التجار والمنظمات.
وهو ما يؤكده العميد القاسم، قائلاً: "بعض الجهات الرسمية، تمنح موافقات دخول على عاتقها الشخصي عبر المعابر".
مافيا التهريب
ظاهرة تهريب الأشخاص بتلك الطريقة يرى فيها الخبير التركي في الشؤون السياسية حمزة تيكين، الكثير من السلبيات بسبب استغلال اللاجئين وخطورة دخولهم إلى تركيا بشكل غير شرعي ما يعرضهم لرصاص الجندرما أو وقوعهم في أيدي مافيا التهريب وابتزازهم وتعرضهم لعمليات السلب والنهب والغرق، وفق ما قاله لـ"العربي الجديد".
وحتى نهاية مايو/آيار الماضي، قتل الجيش التركي 462 لاجئاً سورياً، بينهم 59 امرأة و85 طفلاً، حاولوا عبور الحدود التركية، وفق ما نشره الموقع الرسمي لمركز توثيق الانتهاكات في شمال سورية ( vdc) في الثالث من يونيو الماضي.
لكن لماذا تستمر عمليات التهريب رغم تلك المخاطر؟ يجيب أحمد حداد إعلامي مستقل يقيم في مدينة عفرين، قائلاً: "من المستحيل أن يعمل هذا العدد الكبير من المهربين في هذه المناطق التي تعج بالفوضى والسلاح، دون أن يكونوا محميين من السلطة العسكرية المسيطرة أو من عسكريين سوريين نافذين"، مضيفاً أن قسماً كبيراً من حاملي السلاح يعتمدون على التهريب كمصدر لجمع الأموال في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات.
وتدعم حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام خزينتها من مبالغ رسوم التهريب في مناطق سيطرتها في إدلب وما حولها وفق تأكيد الحداد لـ"العربي الجديد"، إذ تفرض رسوم مغادرة (تهريب) بقيمة 50 دولاراً عن كل راغب بالخروج، مشيراً إلى أن الرسوم تدفع من قبل المهاجرين، ويتم تسجيل اسم من يرغب في الهجرة بتلك الطريقة إلى جانب نسخ هويته الشخصية، فإذا نجحت العملية ذهب المبلغ للهيئة، وإذا لم يستطع العبور يمكنه استعادة قيمة الرسوم ودفعه في محاولة أخرى، كما يقول حداد واللاجئون الذين عبروا إلى تركيا بتلك الطريقة، ومنهم صلاح.
وحول دفع رسوم مغادرة (تهريب) لحكومة الإنقاذ، رد وزير داخليتها، أحمد لطوف، بالقول: "الموضوع ليس رسوماً أو مخالفة. المقصود إبلاغ السلطات المحلية عن كل شخص يحاول الخروج، حتى يتم ضبط الهاربين من وجه العدالة، ممن ارتكبوا أفعالاً جرمية كي يتم القبض عليهم، لأن ضعاف النفوس ممن يرتكبون جرائم يحاولون الهروب خارج المناطق المحررة كي يفلتوا من العقاب. وهذا الفعل يزيد نسبة الجريمة". لكن معدة التحقيق قاطعته: يعني القصد إلقاء القبض على المجرمين منهم فقط؟، يرد لطوف قائلاً: "بالنسبة لمبلغ الرسوم فلا أدري كم الرقم؟ لأنه ليس من اختصاص وزارة الداخلية".