"حياةُ" الكاتب بعد .. مماته
لا تنتهي حياةُ الكاتب بالضرورة بعد مماته. لا يعني هذا أن أعماله تحيا من بعده، بل إنّ حياةً ثانيةً قد تُكتب له، فإذا به ينشر كتبا جديدة، أعمالا أدبية ومراسلاتٍ ودفاتر ملاحظات ومفكّرات، بناء لما يرتئيه الورثة أو من عايشه عن قرب. هكذا تُخرَج إلى العلن أعمالٌ كان قد رفض خلال حياته نشرَها، أو تُفضح أسرارٌ وعلاقاتٌ كان حريصا أشدّ الحرص على عدم كشفها، أو تُتخّذ مواقف ضد مبادئ الكاتب وعكس أفكاره.
هذا ويتضح أن هناك على العموم نوعين من الكتّاب: هؤلاء الذين يتنبّهون إلى إمكانية العبث بحياتهم غصبًا عن إرادتهم، فإذا بهم متحسّبون لغدهم، ينظّمون أوراقهم ويديرون أمورهم ويدبّرونها قبل رحيلهم، مصادرين أية إمكانية للعبث بهم، وأولئك الذين تغدرُهم تفاهة الحياة وحساباتها الصغيرة، فلا يقيم أحبّاؤهم لهم أو لمشيئتهم أي اعتبار، فإذا بهم يدفعون برحيلهم ثمن "مستقبل" محتمَل لا يملكون بشأنه أي افتراضٍ أو أية معلومة. الأمثلة عديدة لا تحصى عن كمّ الأعمال الأدبية التي نُشرت بعد وفاة أصحابها، منها ما اعتُبر تحفا فنّية، ومنها ما انتُقد وأساء إلى سمعة الكاتب ومكانته. فلاديمير نابوكوف، الكاتب من أصل روسي مثلا، نشرت له رواية "لورا الأصلية" غير المكتملة، مع أنه أوصى بضرورة إتلافها بعد موته، لكن ابنه ارتأى عكس ذلك. بيار باولو بازوليني، السينمائي الإيطالي الشهير الذي مات مقتولا، خلّف مخطوطة هي مسوّدة رواية مؤلّفة من 500 صفحة، بقيت طيّ الأدراج قرابة 17 عاما، قبل أن تنشر نهاية عام 1992 تحت عنوان "نفط"، متسبّبة بسجال كبير يتعلّق بشرعية قرارٍ كهذا.
لكن يبقى مثال فرانز كافكا، وهو أحد أهم كتّاب القرن الماضي، محيّرا. أوصى صديقه ومنفّذ وصيته ماكس برود، في رسالة واضحة، بحرق جميع مخطوطاته وأوراقه ومراسلاته. يجدر التذكير أن كافكا، الذي فارق الحياة وهو في سنّ الأربعين، لم يكن قد نشر شيئا يُذكر باستثناء نصوص قصيرة، وقصّتي "التحوّل" و"الحكم". لكنّ ماكس لم يمتثل، وكان مؤمنا بشدّة بموهبة صديقه، ولطالما وعده ببذل ما في وسعه لإيصالها إلى الآخرين. هل أراد كافكا فعلا إحراق كل أثر له؟ يتساءل كثر، مردفين: ما الذي منعه طالما أنه سبق أن أحرق مخطوطاته بنفسه أو بواسطة حبيبته دورا؟ في مطلق الأحوال، لقد أوصى كافكا بما طلبه كتابيا، ملتمسا من شخصٍ آخر فعل ما لم يتمكّن أو يُرد هو فعله. ربما لأنه كان يعرف، في قرارة نفسه، أن صديقه ماكس برود، مثله، لن يجرؤ.
الفرنسي مارسيل بروست، المتوفى عام 1922، كتب، وهو بين العشرين والخامسة والعشرين من عمره، مجموعة "المراسل الغامض وقصص أخرى" ولم ينشرها. كانت تروي عذاباته وارتباكه بعد اكتشافه ميوله الجنسية المثلية. خلال مائة عام تقريبا، بقيت المجموعة مخطوطةً لم تر النور، إلى أن تقرّر نشرها حديثا. أيضا، لقد قرّرت خادمته سيليست، التي اعتنت به خلال سنوات حياته الثماني الأخيرة، أن تطلق لسانها بعد مدة طويلة أمضتها صامتة ترفض الحديث عن سيّدها الذي كانت تجلّه حدّ العبادة. وعلى الرغم من حرصها الشديد على حفظ أسراره، تقول إنها قررت الكلام عند بلوغها الثانية والثمانين، كي لا يُساء من بعدها تفسير بعض الأمور أو إشاعة أخبار كاذبة عنه. ومع ذلك، بدا بروست، في وصفها تعامله معها، غريب الأطوار، ينام نهارا ويعمل ليلا، لا يغادر سريره، لا يطيق أدنى ضجّة، متطلّبا، مستبدّا، في حين أنه كان يأتمنها على أسراره، ويلجأ إليها لمساعدته في إنهاء تحفته العملاقة "البحث عن الزمن الضائع"، التي أنهاها وأنهته.
الأمثلة كثيرة عالميا وعربيا. وقد يكون نشر غادة السمّان رسائل غسان كنفاني من دون رسائلها هي، أو منحُ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الروائيّ الراحل جبور الدويهي وسام الاستحقاق اللبناني البرونزي، "غصبا عنه"، من أسوأ الأمثلة على استحواذ الأقرباء على حياة كاتب. ويبقى السؤال: هل يحقّ للورثة التصرّفَ ضد إرادة كاتب؟ قطعا لا.