"حِيّ" إلى تل أبيب
لا يزايلني مشهد فرق "الكومبارس" في الحفلات الغنائية القديمة الذين كان يقتصر دور بعضهم على ترديد كلمة "حِيّ" خلف المطرب الرئيس. وفي أوقات معينة لا يجوز لهم تجاوزها، خصوصًا في حفلات فهد بلّان، صاحب الصوت الهادر. فيما يقتصر دور بعض النساء على إطلاق زغرودة مدويّة، في أوقاتٍ معلومة أيضًا.
والحال أنني لم أكن أجد تفسيرًا مقنعًا لمفردة "حِيّ" التي كثيرًا ما كانت تتردّد في أغاني فهد بلان، على الرغم من استعانتي بكثير من معاجم وقواميس اللغة، في تلك الفترة التي كانت ما تزال تتمتّع بفلول حرص باهت على سلامة اللغة العربية، قبل استفحال جيلٍ جديدٍ من الأغاني الهابطة التي دشّنت رسميًّا بأغنية "الطشت قلّي".
في البداية، كان لا مناص من ربط كلمة "حيّ" باللغة المشتركة بين الإنسان والحمار، فقد كانت هي المفردة الرئيسية لتحريض الحمير على المشي أو التوقف من السائس. والغريب أن الحمار كان يفهم هذه المفردة دون غيرها، كما تفهم القطط كلمة "بسّ" فقط لطردها أو جذبها، غير أني لم أجد سببًا مقنعًا لإقحام تلك المفردة في مقطوعةٍ غنائيةٍ عاطفية، إلا إذا كان المقصود أن الأغنية ذاتها موجّهة إلى حبيبة كالحمار، عندها ربما يستقيم الهدف والمعنى.
كنت أشفق على فرق الكومبارس الذين يُحشَرون في زوايا ضيقة على المسرح، خلف الجوقة الموسيقية، فلا تظهر منهم غير رؤوسهم، وبالكاد ترصدُهم عدسة الكاميرا، يقفون ساعات ليردّدوا كلمة واحدة، في لحظةٍ معينة، ثم ينتهي دورهم، على الرغم من أنهم يرتدون بذلاتٍ وربطات عنق، ويبدون الوقار والجدّية، وعلى الأرجح أنهم يُشعرون أسرهم بأهمية عملهم حين يخرجون مسرعين من بيوتهم، وليس في أذهانهم غير التركيز على كلمة "حيّ" التي تدرّبوا عليها طويلًا، وعلى توقيتها، ظنًّا منهم أن ما يؤدّونه "عمل عظيم" قد يتسبّب الخطأ فيه إلى إفساد حفلة الغناء برمّتها، ولم يكن ليخطر في بالهم أنهم محضُ "مكمّلاتٍ طربية"، أو قطع ديكور وضعت في اللحظات الأخيرة، يستوي حضورهم وغيابهم، كائناتٍ قابلة للإنقراض السريع حالما تنتهي كلمة "حيّ".
بقي المشهد السابق عالقًا في مخيلتي، على نحوٍ غامض، حتى اكتشفت السبب، أخيرا، بفضل جوقة "كومبارس" جديدة متوائمة مع العصر العربي الجديد، تقف في الركن المعتم من المسرح، مخدوعةً بأهمية أدوارها، على الرغم من أنها لا تتعدّى، أيضًا، مفردة "حِيّ".. جوقة لا تتعدّى مهماتها أداء وصلات "الزغردة" كلما شاء لها مطرب "البيت الأبيض" أن تزغرد، حتى لو كانت الزغردة نواحًا على جنازاتها.
لم يعد الأمر يحتاج إلى أزيد من كلمة "حِيّ" حتى ينتفض سكّان الهوامش الذين أصبحوا، بغتةً "أبطال" المشهد العربي الراهن، ليعيثوا خرابًا وفسادًا في أرجاء الوطن العربي، من يمنه إلى قاهرته، ومن طرابلسه إلى دمشقه. إيعاز "حيّ" واحد صار يكفي ليهرول المطبّعون إلى تل أبيب، من دون حاجةٍ إلى وصلات إقناع طويلة، بل بلغت المهانة حدّ أن صار "الكومبارس" يجتهدون ليكفوا مطربهم الكبير عناء توجيه الأوامر؛ أملًا بالحصول على ركنٍ أوسع قليلًا على خشبة المسرح الذي ضاق بهم، بعد أن تفاقم عددهم؛ فثمّة منهم من يترصّد دوره على أحرّ من الجمر للانخراط في قطيع التطبيع، على الرغم من أنهم صعدوا على أكتاف ثورات الربيع العربي، على غرار جنرالات السودان، ولربما كان حريًّا بمؤدّي أغنية "خذني زيارة إلى تل أبيب" أن يستمع قبلًا إلى أغنية صادرة من البيت الأبيض بعنوان: "حِيّ إلى تل أبيب"، موجّهة إلى الكومبارس العرب.
لا أدري حقّا كيف يلفظ مطرب البيت الأبيض كلمة "حيّ" بالعربية، غير أني على يقين أن الكومبارس إياهم أصبحوا مثقفين بما يكفي لفهم أية إيماءة تصدر من واشنطن وتل أبيب، وتنفيذ الأمر عاجلًا. .. وعمومًا سوف يستمر "الكومبارس" بأداء دوره المزمن، لكنه لا يدرك أن كلمة "حيّ" الأخيرة ستعني طرده نهائيًّا خارج المشهد العالمي كله.