أبراج الكرامة ترتفع
يعشقونها بعيدة، كالخليلة السرّية. ولأنها كذلك بحثوا لها عن بيت "مهجور" لتقيم فيه، مع وعد قاطع أنهم لن يتركوها وحيدة، شريطة ألا تقترب من بيوتهم الزوجية. وفي المقابل، سيغدقون عليها أزيد مما تحلم به أي زوجة "لصيقة" في العالم. وبعد الإيجاب والقبول، تم إبرام العقد بين الطرفين على هذا الأساس قرنا. وكان يمكن أن تطول المدة لولا حدوث أمرين لم يكونا في حسبانهم: أن البيت لم يكن مهجورًا، وأن الخليلة بالغة النّهم ولا حدود لمطالبها، لكنهم مضطرون لتلبيتها، حتى لو نفدت أرصدتهم كلها؛ لأن البديل عودتها إليهم، وهم لا يعشقونها قريبة أبدًا.
تلك حال الغرب مع إسرائيل، الخليلة التي تستمدّ أهميتها من بعدها عنهم، والتي خصّصوا لها "البيت المهجور" على عجل، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء تمحيصه، بعد أن ظنّوا أنه أصبح من أملاكهم عندما تقاسموا إرث "الرجل المريض" قبل موته حتى، فاكتشفوا لاحقًا أن البيت لم يكن غير فلسطين، أو مثلث الرعب الذي يلتهم الغزاة، كما تلتهم النار الخشب.
قلنا لهم ألف مرة: إذا كنتم تعشقون إسرائيل إلى هذا الحدّ فخذوها عندكم، واتركوا لنا بيتنا نظيفًا. لماذا نتحمّل نحن دنس هذه العلاقة غير الشرعية، فأجابوا بأنهم حاولوا، طوال قرون، البحث عن حلّ للمعضلة اليهودية في إطار مجتمعاتهم ذاتها، لكن بلا جدوى، فهم لا يحتملون وجود اليهود بين ظهرانيهم، ولم يكن أمامهم غير إرسالهم بعيدًا، سيما وأن يهود أوروبا عرفوا جيدًا من أين تؤكل الكتف، عندما ربطوا مصائرهم بالدول العظمى، وأصبحوا جزءًا عضويًّا من صراعاتها وحروبها العظمى، حدّ أنهم سعوا إلى إقامة علاقاتٍ "زوجيةٍ" مزدوجة بين المتصارعين بانتظار الغالب منهم، مقابل عرض خدماتهم كرأس حربة في الدولة التي يعتزمون إقامتها. وعندما شعروا أن الكفّة باتت تتأرجح لصالح الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، بذلوا فروض الطاعة والولاء لبريطانيا التي منحتهم وعد بلفور، وفتحت لهم أبواب الهجرة واسعة، ليقيموا دولتهم المشتهاة، وليتخلّص الغرب كله من المعضلة اليهودية التي قضّت مضجعهم، ثم تابعوا الوعد البريطاني من دون أن يغضّوا الطرف عن الفحل الألماني البازغ، ممثلًا بهتلر ونازيته، فحاولوا أن يقنعوه بحل مشكلته مع اليهود عبر تهجيرهم إلى فلسطين، غير أن هتلر رأى أن يرسلهم إلى غرف الغاز.
وعندما شعرت العشيقة السرّية أن عشيقها البريطاني غربت شمس إمبراطوريته، هجرته وتحولت إلى عشيق جديد أزيد فحولةً، ممثلًا بالولايات المتحدة الصاعدة آنذاك، متعهدة أن تكون له قاعدة متقدّمة في قلب منطقة الشرق الأوسط، تعفيه من متاعب الاستعمار المباشر، وتحول دون عودة أي وحدة عربية من أي نوع في المنطقة، وإشغال دولها بالنزاعات البينية، وإبقائها في كهوف الجهل والفرقة والتخلف، تساندها في ذلك طغمةٌ من أنظمة حكم قبلية مستبدّة، لا يعنيها غير الحفاظ على عروشها واستبدادها، من خلال رهن تلك العروش برضى إسرائيل عنهم، فهرول من هرول للتطبيع معها، وانتظر من انتظر دوره. أما الرافضون فمنهم من هدمت دولهم على رؤوسهم، ومنهم من حوصر بغذائه ودوائه، ومنعت عنه حتى أقلام الرصاص.
في المحصلة، استندت الخليلة، في احتلالها البيت غير المهجور، إلى عشيق قابل دومًا لدفع الثمن كلما طلبت المزيد، أو كلما شعر بأدنى خطر يتهدّدها، فطغت وعربدت أمام الجيران. ولم تكن ترى مهدّدًا حقيقيًّا لها غير أصحاب البيت أنفسهم فقط، الذين ظلوا حتى حرب غزة أخيرا يرفضون الخضوع مهما فدح الثمن الذي يكابدونه. وفي هذه الحرب، تحديدًا، تشعر خليلة الغرب لأول مرة منذ قيامها، أن كلّ ما استغرقها قرنًا لتأسيسه ينهار أمام عينيها حرفيًّا، كما تنهار أبراج غزّة بصواريخها الكريهة، بينما ترتفع مقابلها أبراج أخرى أعلى قامة، عنوانها الكرامة المستعادة.