أبناء الحياة
ما الذي يتبقى، في النهاية، من العلاقات الاجتماعية التي تصادفنا في حياتنا، وتلك التي شكّلت جزءا مهما من وعينا وشخصياتنا التي نحن عليها الآن؟ يخطر لي هذا السؤال، كلما التقيت بصديق أو أصدقاء لم ألتق بهم منذ مدة طويلة، منذ تفرّقت بنا السبل والمدن بعد وقوع الزلزال السوري الكبير عام 2011، وما نتج عنه من افتراقات اجتماعية مهولة، غيّرت وجه المجتمع السوري وسورية إلى الأبد.
مع بداية الثورة السورية، حصلت اصطفافات متعدّدة، قسّمت حتى أفراد الأسرة الواحدة، حصل هذا لدى أسر وعائلات سورية كثيرة. عائلتي أيضا لم تكن في منجىً من هذا الأمر الخطير. أمّا بين الأصدقاء، ومنهم أصدقاء عمر، فقد حصلت قطيعةٌ كاملة. وفي بعض الأحيان، وصلت إلى حدّ الاتهامات والتخوين والتهديد. تفوّقت الأيديولوجيا على العشرة وعلى الحياة وتفاصيلها، تفوّقت على تقاسم الفرح والحزن، على تشاركية الأحلام والآمال والمشاريع قبل الثورة. أخذت لعنة السياسة معها كل شيء، لعنة الخوف السوري الأبدي، كان الخوف قاتلا آخر، يُضاف إلى القتلة السوريين. وكان ضحاياه كثرا جدا، لكنهم غير مرئيين، ذلك أنّ ما استهدفه الخوف برصاصه القاتل كان قيم الحياة الاجتماعية، قيم الصداقات، قيم العشرة، الخبز والملح كما نقول جميعا، الألفة والحب وصلة الرحم.. ذلك كله نادرا ما يتحدّث عنه أحد بوصفه من خسائر الحدث السوري، مع أنه إحدى أكبر الخسائر التي منينا بها جميعا، لكن القيم ليست مرئية، لا تهتم بها الميديا، لا صورة لها، وبلا صورة صادمة أو مؤثرة، وبلا دليل ملموس وموثق. لهذا، نادرا ما اهتم بخسارة القيم أحد، ونادرا ما كانت ظاهرة يرصدها المهتمون، لكن في الأغلب حين سيحكى لاحقا عن سورية بعد 2011 في الفن والأدب، سوف يكون هذا حاضرا وبقوة، فالذاكرة الفنية السورية حاليا لم تتخلّص من الدم والخراب، ورصد الظواهر الاجتماعية يحتاج إلى حيادية ما زالت غير موجودة لدينا؛ ما زلنا أسرى الانحيازات والاصطفافات السياسية والأيديولوجية.
أنا من السوريين الذين خسروا أصدقاء، ليس بسبب الموت فقط، بل بسبب الموقف من الثورة. وخسروا أصدقاء آخرين بسبب اختلاف أماكن العيش والحياة، أصدقاء كنت أقسم قبل عقد أن لا شيء بإمكانه أن يجعلنا نفترق أو نختلف، وأنّ أيّ خلاف بيننا سوف يكون عابرا حتما، لكننا افترقنا، بعضنا أعلن القطيعة مباشرة مع كل من اختلف معه في المواقف السياسية، وبعضنا الآخر شغلته الحياة والاندماج في المجتمعات الجديدة عن كل ما يتعلق بحياته السابقة، ودخل في دوائر اجتماعية جديدة ومختلفة، استطاعت أن تكون بمثابة التعويض عن دائرة حياته السابقة في سورية، وبعضنا دخل دوّامة الاكتئاب، سواء أكان ما زال في داخل سورية أم خرج منها إلى مكان آخر. الدوامة التي تقضي على كل ما لا يغذّيها، وبعضنا لم يعد قادرا على الدخول في دائرة علاقات جديدة لأسبابٍ مختلفة، لكننا جميعا نشعر أننا فقدنا ما لا يمكن تعويضه ولا يمكن استبداله.
والآن، بعد مرور عشر سنوات من انكسار الحلم والهزائم والخسارات المتلاحقة والاغتراب والمنفى والتشتّت، ومع الركون إلى قليلٍ من الوجدان الإنساني الحي، سيسهل الاكتشاف أنّ شرط الأيديولوجيا والتوافق في المواقف السياسية في العلاقات هو شرط مجحف ومؤقت، ولا يؤسّس لعلاقة عميقة ومتينة وحقيقية، خصوصا لمن هم مثلنا، من تجاوزوا منتصف أعمارهم، وتشكّلت شخصياتهم سابقا، وهو ما ظهر خلال العقد الماضي، فمعظم الصداقات التي تشكّلت بناء على الموقف السياسي والانحياز للثورة أو ضدها لم يصمُد منها سوى صداقات جمع بين أصحابها ما يتفوّق على الأيديولوجيا، من جمعتهم رؤية مشتركة للحياة ومن جمعتهم قيم أخلاقية وإنسانية واحدة. الحقيقيون الذين لا يخجلون من ضعفهم ولا من أخطائهم ولا من تواريخهم الشخصية، الذين يقدّمون بعضهم لبعض تلك الطاقة الإيجابية المحفّزة والقادرة على اختراق دوّامة الاكتئاب. هؤلاء من يطلق عليهم اجتماعيا اسم "أبناء الأصل"، لكن الأصل هنا ليس الغنى ولا الجاهة العائلية والقبلية، الأصل هنا هو الحياة وفهمها على حقيقتها بوصفها عابرة لا يؤخَذ منها بجدّية سوى الأخلاق والنبالة والشغف، الصداقات القائمة على النبالة والشغف والأخلاق هي التي يعوّل عليها، وهي ما سيتبقى لنا، لأن أصحابها هم أبناء الحياة.