أربعون عاماً على الغزو الإسرائيلي للبنان
تحلّ هذه الأيام الذكرى الأربعون للغزو الإسرائيلي للبنان (1982) الذي غير الكثير في معادلة الصراع، خصوصاً على الصعيد العسكري، إذ فقدت منظمة التحرير الفلسطينية ورقة التواصل الجغرافي المباشر الذي كان يسمح لها بشنّ هجمات على قوات الاحتلال الإسرائيلي انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. وهو الأمر الذي كان له بالغ الأثر على المشروع الوطني الفلسطيني، والمسارات التي انعطف إليها بعد ذلك، وتحديداً مؤتمر مدريد (1991) واتفاق أوسلو (1993) وما ترتب عنهما على أرض الواقع، من خلال ''شرعنة'' الاحتلال الإسرائيلي، وتعويم الإرث النضالي الفلسطيني في متاهة المفاوضات التي لم تزد الاحتلال إلّا تغوّلاً في سياساته العنصرية تجاه الفلسطينيين.
كان ذلك الحدث، وقد حمل اسم ''سلامة الجليل''، فارقاً بكل المقاييس. وعلى الرغم من تبرير إسرائيل غزوها لبنان بالردّ على محاولة الاغتيال التي تعرّض لها سفيرُها في لندن، شلومو أرغوف، في 3 يونيو/ حزيران 1982، إلّا أنّ ذلك لم يكن إلا ذريعة لاستهداف منظمة التحرير وإخراجها من لبنان، وتأمين المستوطنات الشمالية في إسرائيل، وفرض قواعد لعبة جديدة على النظام الدولي في تعاطيه مع القضية الفلسطينية، وخلط مزيد من الأوراق داخل الساحة اللبنانية، ولا سيما بعدما منحها الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغان، الغطاء السياسي، كي تتغوّل قواتُها، وتمعن في تدمير المدن والبلدات اللبنانية التي اجتاحتها، متخطّيةً، بذلك، الأهدافَ التي سطّرتها في البداية، والتي كانت محددةً، في إجبار مقاتلي منظمة التحرير على الابتعاد 40 كيلومتراً عن الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة.
كان واضحاً، منذ الأيام الأولى للغزو، أنّ إسرائيل تتوخّى إيجاد واقع جيوسياسي جديد في المنطقة، مستغلة حالة الانكفاء العربي، وخروج مصر من الصراع، والدعم الأميركي والغربي لها. وبلغ الغزو ذروته بإحكام قوات أرييل شارون حصارها على بيروت، بكلّ رمزية هذه المدينة في الذاكرة العربية، فلم تتورّع عن قصفها برّاً وبحراً وجواً، وارتكبت مجازر وحشية بحق المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، واستعملت في ذلك أسلحة محظورة دولياً، بعد الضوء الأخضر الذي حصلت عليه من واشنطن بتأكيد ''حقها'' في الدفاع عن نفسها ومصالحها. وتحوّلت مشاهد القصف والدمار إلى فصل آخر في السجل الأسود لجرائم الاحتلال الصهيوني.
كان إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان أولوية استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل، فاستغلت وجود قطاع واسع من المسيحيين اللبنانيين، ظلّ يعتبر الفلسطينيين تهديداً ديموغرافياً من شأنه أن يخلّ بالتوازنات الأهلية والسياسية في لبنان. ومن ثم، ظل تغيير المعادلة اللبنانية والتحكّم في توازناتها جزءاً من الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه لبنان.
كان للغزو الإسرائيلي تداعيات لبنانية وفلسطينية وعربية عميقة. فمن ناحية، عمّق جراح لبنان، ودفعه إلى مزيد من الاحتراب الأهلي، خصوصاً بعد اغتيال الرئيس بشير الجميّل، المنتخب حينها في 14 سبتمبر/ أيلول (1982). وأفضى إلى تغيير المشهد السياسي اللبناني، فسيطرت المليشيات المسيحية على معظم مناطق الجنوب التي كانت تحت سيطرة إسرائيل. وارتكبت قوات الكتائب اللبنانية، بالتعاون مع قوات إسرائيلية، مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا المروّعة التي راح ضحيتها مئات القتلى، معظمهم من المدنيين الفلسطينيين. وعلى الصعيد الفلسطيني، كان مشهد خروج مقاتلي منظمة التحرير من بيروت أحد أكثر المشاهد تراجيدية في تاريخ التغريبة الفلسطينية، بعد أن خاضوا، إلى جانب القوى الوطنية اللبنانية، معارك مشرّفة ضد قوات الاحتلال، وكبّدوها خسائر في العتاد والأرواح، ما اضطرّ قوات الاحتلال إلى الموافقة على وقف إطلاق النار والاتفاق على خروج المقاتلين الفلسطينيين إلى عدد من الدول العربية تحت حماية دولية. إضافة إلى ذلك، أفضى الغزو الإسرائيلي إلى إحداث تغيير جوهري في بنية المقاومة الفلسطينية، بصعود المكوّن الإسلامي، ممثلاً بحركة حماس، وتشكلِ تقاطب فكري وسياسي لا يزال يلقي بظلاله على المشهد الفلسطيني. أما عربياً، فقد تخلص النظام الرسمي العربي من منظمة التحرير التي كانت تُحرجه بمحاولتها الخروج عن وصايته والحفاظ على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني.