أي تحوّل تمثّله زيارة بلينكن إلى الصين؟
هكذا، اتفق الجانبان الأميركي والصيني على إعادة جدولة زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى بكين، لتبدأ بعد غد، 18 يونيو/ حزيران الجاري، أي بعد نحو أربعة شهور من تأجيل الزيارة التي كان مخطّطاً لها في فبراير/ شباط الماضي، على خلفية اكتشاف الولايات المتحدة منطاداً صينياً فوق أراضيها، قالت إن بكين أطلقته لأغراض التجسّس، بينما شدّدت الصين على أنه منطاد علمي غيّر مساره بالخطأ نتيجة الأحوال الجوية.
وما دام إلغاء الزيارة عبّر عن حالة من التوتّر الإضافي يومها بين البلدين، فإن من المنطقي الاعتقاد أن العودة إلى تنفيذ الزيارة إنما يعكس حالة من تحسن العلاقات بينهما. فهل هذا صحيح؟ ببساطة: لا! لأن كلتيهما، الزيارة التي كانت مزمعة حينها، والزيارة التي ستتم، لا تعكسان، في الجوهر، تحسّن علاقات واشنطن وبكين، وإنما رغبة كل منهما في الجلوس على مائدة المفاوضات، بعد ما يعتقد كل واحد منهما أنه "أمرٌ واقع جديد" فرضه على الطرف الآخر، يمكن من خلاله تحقيق رؤيته وتطلّعاته لمستقبل النظام العالمي وتقاسم الأدوار فيه.
لا تعكس زيارة وزير الخارجية الأميركي تحسّن علاقات واشنطن وبكين، وإنما رغبة كل منهما في الجلوس على مائدة المفاوضات
"الأمر الواقع الجديد" من وجهة نظر الولايات المتحدة مفاده أن الصين باتت تحت التهديد العسكري بعدما نشرت الولايات المتحدة قواتها في غرب المحيط الهادئ، وأقامت قواعد عسكرية إضافية بالتعاون مع الفيليبين، وجدّدت نشاطها العسكري مع اليابان وكوريا الجنوبية وأجرت معهما مناورات عسكرية عديدة تجعل "الأيدي على الزناد" في المواجهة مع الصين. ثم إنها ضغطت على الصين سياسياً عبر ملاحقة شراكاتها الاستراتيجية في أفريقيا وأميركا اللاتينية وجزر المحيط الهادئ، وتهديدها بتغيير سياستها تجاه مبدأ "صين واحدة" من خلال التعامل مع تايوان كما لو أنها دولة مستقلّة، ثم اقتصادياً، خصوصاً عقب اجتماعات مجموعة الدول الصناعية السبع في هيروشيما، ويصنّف في ذلك أيضاً سعي واشنطن إلى حرمان بكين من الحصول على الأجيال الجديدة من أشباه الموصلات. والحال أن واشنطن ترى أنها وضعت بكين تحت ضغطٍ سيُجبرها على السعي إلى التفاهم معها، والتراجع عن مساعيها إلى قلب النظام العالمي القائم، أحادي القطبية الأميركية، إلى نظام عالمي متعدّد الأقطاب.
أما الأمر الواقع الجديد الذي تعتقد بكين أنها فرضته على غريمتها، وستُجبرها على التنازل عن مكاسب سياسية أكبر للصين في العالم، أي الاعتراف بتعاظم مكانتها الدولية، فصمودُها أمام الضغوط العسكرية من خلال تنفيذ مناورات عسكرية بالذخيرة الحيّة قبالة جزيرة تايوان، ما يعني التهديد بغزوها، رغم الحشد العسكري الأميركي في المنطقة، ثم نجاحها في توسيع حضورها السياسي الدولي عبر التدخّل في مناطق النزاع مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والخلاف السعودي الإيراني، وهو أمر ارتبط أيضاً بتردّد أوروبا في اللحاق بركب الولايات المتحدة في الضغط على الصين، يُضاف إلى ذلك إيجاد بكين آفاقاً جديدة لمواصلة تقدّمها الاقتصادي الذي يمثل جوهر نجاحها السياسي الدولي؛ يشمل ذلك علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، وتقاربها الاقتصادي مع جمهوريات آسيا الوسطى ومع منطقة الخليج العربي.
ترى واشنطن أنها وضعت بكين تحت ضغط سيُجبرها على السعي إلى التفاهم معها
والحال إن لقاء الطرفين الآن على طاولة المفاوضات يعني أن كل واحد منهما يريد أن يستثمر ما يعتقد أنها شروط فرضها على الآخر، من أجل تغيير قواعد اللعبة. واللعبة ليست مكاسب تجارية، ولا مشاريع اقتصادية. ليست أيضاً استقلال تايوان من عدمها، ولا مصالح حلفاء واشنطن مع جيران بكين. المسألة ليست خطوط التوريد العالمية التي تعبر بحر الصين الجنوبي، ولا نشاط الصين في أفريقيا ومناطق العالم النامية. القضية الحقيقية التي يتفاوض عليها الطرفان هي مقدار ما يعترف به كلٌّ منهما للآخر من نفوذ: تريد الولايات المتحدة من الصين أن تعود إلى الاعتراف بأحادية القطبية الأميركية، والاندماج مجدّداً في النظام العالمي الذي تكرّس منذ نهاية الحرب الباردة، بينما تريد الصين من واشنطن الاعتراف بأن الدنيا تغيّرت، وأنها يجب أن تتعامل معها باعتبارها قوةً دوليةً مكافئة لها من حيث الحضور والأهمية، وهو أمر ينطوي على الاعتراف بمساحات نفوذ الصين السياسية والاقتصادية في العالم، والتوقّف من ثم عن تهديد مصالحها، ابتداءً من ضم جزيرة تايوان مستقبلاً، وصولاً إلى مدّ نفوذها السياسي عبر بوابة "مبادرة الطريق والحزام" الاقتصادية.
ضغطت الولايات المتحدة، إذن، على الصين بشكل مكثف خلال السنتين الأخيرتين، وتريد اليوم أن تفتح باب التفاوض، لعلّ الصين اقتنعت بالعودة إلى التفاهمات القديمة ذات الشقّين: تعترف هي للأميركيين بالقطبية الأحادية، بينما تعترف واشنطن بمبدأ صين واحدة وتتركها تواصل نموّها الاقتصادي القائم على ثنائية جذب الاستثمار الخارجي وبناء العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول. أما الصين فردّت على هجوم الولايات المتحدة بارتياد آفاق متنوّعة، وتريد الآن أن تفتح باب التفاوض، لعل الولايات المتحدة اقتنعت بضرورة صياغة تفاهمات جديدة، مفادها عدم تعرّضهما بالأذى لمصالح بعضهما بعضا.
زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى بكين تعني أن كل واحدٍ من الطرفين خرج بنتائج إيجابية من حالة جسّ النبض الأولية التي جرت في الشهور الأخيرة، مترافقاً مع قناعةٍ متأصّلة لديهما بأن ليس من مصلحتهما إشعال حربٍ طاحنة: لا عسكرية، ولا حتى باردة، لكن ذلك كله لا يعني أن مساعي الاستقطاب التي يخوضانها، وحالة التوتّر المتزايد التي تظلل علاقاتهما، يمكن أن تتبدّد نتيجة هذه الزيارة.