إخراج أميركا من العراق
بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة العراقية الحالية لرئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، هدأت عمليات القصف بالصواريخ على محيط السفارة الأميركية في العراق، وعلى المعسكرات التي يوجد فيها متعاقدون أميركيون للتدريب، كما في قاعدة عين الأسد في الأنبار، أو قاعدة حرير في أربيل، شمالي العراق.
وغمز بعضهم ساخراً بأن من كان يقصف صار الآن في الحكومة، وأنه لم يعد بحاجة إلى القصف، حتى عادت وتيرة القصف الصاروخي بعد 7 أكتوبر، واشتعال الحرب في غزّة، ولكن علينا أن لا نتعجّل ونربط عودة القصف في العراق لمجرّد الثأر للفلسطينيين الذين يسقطون تحت نيران القصف الإسرائيلي وما زالوا، فالصورة أكثر تعقيداً، فقد تتضمّن تعاطفاً سياسياً وعقائدياً، ولكن هناك معطيات أخرى تتعلّق بالصراعات داخل الساحة العراقية بدرجة أكبر.
يربط متابعون كثيرون ما بين انخفاض وتيرة الهجمات على المصالح الأميركية في العراق مع حكومة السوداني، بالمقارنة مع تصاعدها خلال حكومة سلفه مصطفى الكاظمي، الذي كانت الفصائل الشيعية تناصبه العداء، وتعتبره مقرّباً من المحور الأميركي. ولكن، إن عدنا قليلاً إلى الوراء، لرأينا أن هذه الهجمات كانت موجودة مع حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، بل تصاعد التراشق المتبادل ما بين الأميركان والفصائل إلى لحظة خطيرة وغير مسبوقة، وهي اغتيال أبي مهدي المهندس وقاسم سليماني في يناير/ كانون الثاني 2020، وكان ذلك كله في عهد عبد المهدي المقرّب من الفصائل نفسها.
جذر التعقيد الذي يتبدّى اليوم في ارتباك حكومة السوداني إزاء مطالبة الفصائل بسحب المتعاقدين الأميركين وإنهاء الاتفاقية الأمنية معهم، يعود إلى بدايات عمل النظام السياسي الجديد ما بعد 2003، ورؤية التيارات السياسية الشيعية لطرق إدارة الدولة. لقد تعامل رئيس الحكومة الانتقالية في 2005، وهو إبراهيم الجعفري، بمرونة عالية مع التهديد الذي كانت تمثله، في وقتها، فصائل جيش المهدي، التابع لمقتدى الصدر، فكانت قوات التحالف الدولي، بقيادة أميركا، تلاحق عناصر جيش المهدي وتقتلهم أو تعتقلهم، بينما كان الجعفري يمدّ خطوطاً من التواصل معهم، بل وربما يساعدهم، طمعاً في كسب قاعدة الصدريين لتقوية حظوظ حزب الدعوة ضد غريم شيعي كبير في وقتها، المجلس الأعلى الإسلامي.
ظلّ هذا التأرجح عند السياسي العراقي (الشيعي) ما بين تقوية سلطة الدولة أو الاعتماد على الفصائل المسلحة خارج نطاق الدولة أو المساومة معها أشبه بقاعدة عمل غير مكتوبة. ويتذكّر ناشطون وصحافيون كثيرون، عشية اختطاف الصحافية أفراح شوقي، في ديسمبر/ كانون الأول 2016، أن الجميع كان يعرف من الجهة التي اختطفتها، والحكومة تعرف، ولكن حكومة حيدر العبادي في وقتها فضّلت التفاوض معهم (وهم فصيل شيعي مسلّح)، من أجل تحرير الصحافية، بدل التعامل معهم مجرّد خارجين على القانون ويجب أن يُعاقبوا.
لا يفصل هذا التأرجح بين التيارات السياسية وتوجّهاتها، وإنما بين منطقي عمل الدولة وعمل منظمات خارج الدولة (أو خارجة على الدولة غالباً)، فمن الممكن لتيّار سياسي أن يتبنّى منطق الجماعات المسلحة في ابتزاز الدولة، ولكنه سرعان ما يتبنّى منطق الدولة حين يكون فيها.
ولهذا السبب، هناك من يقول إن المعضلة تتعلّق بادماج الجماعات خارج الدولة داخل إطار الدولة، وهي عملية طويلة ومعقّدة بدأت منذ 2003 ولا يبدو أنها ستنتهي، والسبب لأن الدولة غير قادرة على فرض تصوّر الادماج هذا، إنها تتصرّف باعتبارها طرفاً في دائرة علاقات مع القوى خارج الدولة، وليس مظلّة لجميع القوى والتيارات.
لا حاجة لتكرار القول إن العراق لم يتحرّر فعلياً من السيطرة الأميركية، والسبب في ذلك ليس أميركا بشكل مباشر، وإنما فشل الدولة العراقية في الإنهاء المنطقي والمنهجي للحاجة إلى أميركا. ومن يريد إخراج أميركا من العراق فعلاً عليه التخطيط لذلك، لا بمناورات لها طابع ابتزازي ضد القوى الممثلة للحكومة العراقية، ولن تؤثر على الحضور الأميركي في العراق كثيراً.