استدعاء النبي موسى والتسويغ لهمجية إسرائيل
ليس ثمّة تفسير أكثر معقولية لإنتاج السلسلة التلفزيونية "الوصية: قصّة النبي موسى" وبثّها في هذا التوقيت من العام 2024، سوى ربطها بأحداث ما بعد 7 أكتوبر (2023)، أي بالبحث عن مُسوّغ دينيّ وتاريخيّ لاستدرار تعاطف المشاهد مع دولة إسرائيل المعاصرة، وتبرير همجيتها تجاه الشعب الفلسطيني في غزّة.
السلسلة ذات الحلقات الثلاث، التي بدأت شبكة نتفليكس بثّها قبل بضعة أيام، تروي قصة الاضطهاد الذي تعرّض له العبرانيون في مصر القديمة، وصبرهم ومثابرتهم واتحادهم تحت قيادة النبي موسى للحصول على الحرّية من الفرعون، و"العودة" إلى أرض كنعان تنفيذاً لأمر الإله الذي ظهر لموسى. القصة إذاً لا تريد أن تروي حكاية النبي موسى كما أوردتها الكتب الإبراهيمية الثلاثة (التوراة والإنجيل والقرآن)، بل نضال العبرانيين للحصول على حرّيتهم و"حقوقهم التاريخية"، بشكل يعكس مدى استحقاقهم لتلك الحقوق في الماضي والحاضر، وأهليتهم لبناء كيان مستقلّ منيعٍ رغم ما يتعرّضون له من كراهية الشعوب الأخرى التي تحاول جاهدة الانتقاص من حقّهم التاريخي. والمغالطات التي تنطوي عليها السلسلة متعدّدة الجوانب، أولها دينيّ، إذ ينطلق العرض من التسليم بالحقيقة التاريخية التي مفادها أنّ قبيلة العبرانيين لم تتعامل مع الإله الذي بشّر به موسى باعتباره إلهاً لكلّ البشر، خالقاً للكون ومدبّراً لأمره، بل باعتباره إلهاً للعبرانيين فحسب، يحمي القبيلة ويدافع عنها في وجه أعدائها الذين يتّخذون آلهة أخرى. ومن هذه الفكرة الأولى وُلدت فكرة "شعب الله المختار"، فهم من اختارهم الإله يهوه ليعبدوه ولا يكون لهم إله غيره، في حين تتبع القبائل والشعوب الأخرى آلهة متنوّعة، وهذا أمر يتعارض مع القول إنّ اليهودية بدأت ديانة توحيدية، فهي توحّد إله العبرانيين فحسب، ولا تنكر على الآخرين أن يكون لهم آلهة أخرى، وإن كانوا يعدّونها آلهة أقلّ عظمة من يهوه الذي اختار بني إسرائيل وفضلهم.
المغالطة الدينية هنا أنّ السلسلة التلفزيونية انتقلت فجأة إلى قول العكس، من دون مقدّمات ولا تبريرات، فحين يواجه موسى فرعون كي يطلب منه السماح للعبرانيين بالخروج إلى الصحراء، يقول لفرعون إنّ الإله الذي أرسله هو خالق فرعون وخالق الكون كلّه. وهي فكرة لم تكن مطروحة في تلك المرحلة التاريخية من تأسيس الديانة، بل كان القصد من المعجزات التي أبداها موسى لفرعون أن يظهر له تفوق إلهه على آلهة فرعون التي يدّعي أنّه يتواصل معها، وكذلك على سَحَرَتِه. تلك المعجزات بذاتها مغالطةٌ تاريخيةٌ أخرى تضمّنتها السلسلة التلفزيونية، وإن كان تبريرها أنّها مستقاة من الكتب الدينية وعلى رأسها التوراة، متضمنة معجزات لم يرد ذكرها في القرآن رغم كلّ ما أفرده من مساحات للحديث عن النبي موسى (جاء ذكر موسى في القرآن 136 مرّة، وأورد قصته مع فرعون 20 مرّة). على أنّ المغالطة هنا ليست في مدى ورود تلك القصص في القرآن، بل في أنّها قصص أسطورية بيّنة، مثل تحوّل مياه النيل إلى دم، ووقوع مصر تحت سلسلة من الأوبئة، ثم أمر الإله بموت كلّ ولد بكْر في العائلات المصرية، فتلك أحداث على خطورتها لم يظهر ما يؤكّد حدوثها في تاريخ المصريين القدماء (يسمّون الفراعنة)، رغم كلّ ما تركوه من بَرديات ومِسلّات ونقوش تروي تفاصيل تاريخهم وحياتهم، ما يجعل من غير المعقول أن لا يقوموا بتدوينها إن كانت وقعت حقاً.
يلمَس من يتابع استدعاء النبي موسى في سلسلة نتفليكس أنّ جرائم إسرائيل اليوم مبرّرة من عند الإله
ليست المغالطة التاريخية الأبرز في سرد تلك الأساطير باعتبارها تبريراً لرغبة الإله في الدفاع عن العبرانيين، ونصرتهم ليكون لهم في نهاية المطاف دولة على "أرض أجدادهم" في كنعان يمكن إسقاطها على دولة إسرائيل المعاصرة، بل في ما بات شائعاً بين المختصين من مغالطات تاريخية حول قصة موسى نفسها، بما في ذلك مكان وقوعها، إذ لم يجد علماء الآثار أي دليل أركيولوجيّ على وجود العبرانيين في مصر وسيناء، رغم الجهود الكبيرة التي بذلوها في سبيل ذلك، خصوصاً إبّان احتلالهم شبه جزيرة سيناء عقب حرب عام 1967. لعل الرأي الأبرز هنا، ما ذهب إليه المؤرّخ كمال الصليبي، صاحب الأطروحة الشهيرة "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، التي يعتقد فيها أن مصر التي تدور فيها الأحداث هي قرية في جنوب الجزيرة العربية كانت تسمى "مصرايم" وتخضع لحكم الفراعنة، تقع اليوم بالقرب من خميس مشيط في جنوب السعودية، وتحمل اسم المصرمة، وكذا المناطق الأخرى التي تدور فيها القصة التوراتية التي سردتها تلك السلسلة التلفزيونية، مثل مدين وجبل سينا، فهي تتوزّع بين جنوب السعودية واليمن، فضلاً عن قوله إنّ قصة موسى ليست في حقيقتها قصة شخص واحد، بل تجميعاً لقصص ثلاث شخصيات تاريخية حملت كلّ منها اسم موسى، الذي يعني من وجهة نظر الصليبي "المخلّص"، بحسب ما يذكر في كتابه "خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل".
هذا كلّه يجعل النهاية السعيدة التي جاء عليها المسلسل، متمثلة في نظر موسى، باسماً، إلى الأرض الموعودة بعد 40 سنة من المعاناة والتّيه، أكثر من مجرّد رسالة تقرر حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. لعل من يتابع استدعاء النبي موسى في هذه السلسلة، يمكنه أن يلمس سعيها للقول إنّ جرائم إسرائيل اليوم مبرّرة من عند الإله لأنّه فعل "جرائم" مثلها سابقاً دفاعاً عن شعب إسرائيل، وضماناً لحريته، أي حين فعل كلّ تلك الأساطير التي لا يوجد دليل واحد على أنّها حدثت بالفعل خارج خيال من كتبوها وأوهامهم.