الأردن يكتشف اللقاح
بإعلانه حلّ نقابة المعلمين وحبس أعضاء مجلسها، يكون الأردن الدولة الوحيدة من دول العالم الثالث الذي نجح بالتوصل إلى لقاح فعّال ضد فيروس كورونا، وما عليه سوى إبلاغ منظمة الصحة العالمية بهذا الابتكار، لتسجيله رسميًّا، حفاظًا على حقوق "الملكية الفكرية"، ولكن مع ضرورة وضع تنبيهٍ على دليل الاستخدام المرفق بالدواء، يشير إلى أن هذا العلاج مخصّص لشعوب العالم الثالث، ولا يفيد غيرهم، ولا بأس من إدراج مقولة كيبلنج في ذيل الدليل لضرورات الإضاءة المعرفية: "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا".
لا علاقة للسخرية بموضوعنا المطروح، فالاختراع لا يحتمل المزاح؛ لأنه يتعلق بالمصائر، فقد كان مفهومًا، منذ البداية، أن للغرب كورونه الخاص، وللشرق كذلك، وهو ما يفضي، في النهاية، إلى تباين اللقاحات بين وبائين وجائحتين، تبعًا للتمايز السياسي والثقافي بين عالمين، يرى الأول في الوباء مهدّدًا خطيرًا لشعوبه وحقّها في الصحة والعلاج والحياة الخالية من الأمراض، بينما يرى الثاني في الوباء فرصةً واجبة الاقتناص للقضاء على "أوبئة" الحراكات الشعبية والنقابية، ووأد الرأي الآخر.
منذ بدء الجائحة، حبسنا أنفاسنا، لا من الوباء القادم، بل من القرارات المقبلة، وحذّرنا من أن إعلان الأحكام العرفية، وإغلاق الحدود، وحبس الناس في منازلهم، لن تكون غير "أكسسورات" تجميلية لما هو أخطر، وكان تحذيرنا واضحًا: "سينقشع الوباء وتبقى الأحكام العرفية"؛ لأن أنظمتنا استمرأت هذه الأحكام، منذ قرّرت وحدها أن بلادنا "مهدّدة" بالأخطار "الداخلية والخارجية"، ومستهدفة من الأعداء والأصدقاء، وكأننا محور الكون وقشّة توازنه. أما الهدف المستتر وراء تلك الأحكام، فلم يكن غير توطيد أركان النظم الحاكمة، وتأبيد سلطتها، وتكميم أفواه المعارضة.
جاء الوباء فرصة سانحة لم تضيعها الحكومة الأردنية، التي كان على رأسها آنذاك عمر الرزاز، المتحدّر من سلالة عربية طليعية تحمل أفكارًا تنويرية تؤمن بالتغيير والتحديث والوحدة، غير أنه ضرب بتلك السيرة العطرة عرض الحائط، وهو يعتلي المنبر معلنًا سريان أحكام عرفية، بذريعة مكافحة الوباء. وقد حاول مثقفون أن يلتمسوا له عذرًا، في البداية، مسترشدين بما فعله "الغرب" من إعلانه حالة الطوارئ، وإغلاقات حدوده، ولسان حالهم يقول: "إذا كان الغرب فعلها فلا تثريب علينا"، لكنهم تغافلوا آنذاك عن مقولة كيبلنج بشأن الشرق والغرب، غير مدركين تباين الدوافع بين حضارة وفلول حضارة. ثم حلّت الصاعقة الأولى بحلّ نقابة المعلمين الأردنيين عرفيًّا إبان حكومة الرزاز ذاته، ثم قضائيًّا على عهد خلفه، ليتضح الهدف الحقيقيّ غير المعلن من إصدار الأحكام العرفيّة، فقد كانت الفرصة سانحة للغاية مع إغلاق المدارس وجمود النشاط النقابي للمعلمين مؤقتًا بسبب الجائحة.
ولعلّ المفارقة المحزنة في هذه المأساة كلّها أن نقابة المعلمين الأردنيين كانت سبّاقة في الاستجابة لطلبات التبرّع الحكومية التي وجّهها الرزاز نفسه لمساعة الفئات الأزيد تضرّرًا من الجائحة، فقد وصل تبرّعها إلى مائة ألف دينار، عبر شيك مقدّم إلى الرزاز بصفته الوظيفية، فجاء الجزاء نقيضًا لجنس العمل، ولا أدري متى صرف الرزاز الشيك، قبل الحلّ أم بعده؟
لم يعد ذلك مهمًّا الآن، فالمهم أن نقف الآن للأحكام العرفية "ونوفّها التبجيلا"، لأنها صاحبة الفضل الأول والأخير في ابتكار اللقاح المنشود ضدّ الوباء "الخطير" الذي اجتاح شرقنا، ونجاح اختباراته "النقابية" الأولى، بدليل مرور قرار بالغ الخطورة مثل حلّ نقابة المعلمين، مرور "البؤساء"، من دون أن يترك صدىً واحدًا لا من الثيران البيضاء، خصوصًا من النقابات التي تنتظر دورها على موائد اللئام، ولا من الثيران السوداء، وأعني بها كومة الأحزاب التي لم تكلف نفسها إصدار بيان شجب بائس ضدّ جريمة حكومية بهذا الحجم، فالكلّ اليوم بانتظار الإعلان الرسمي عن فتح الحدود و"إغلاق العقول".