الاستشراق الإعلامي... هكذا تُسطح الثورة السورية
في اللقاءات التي يجريها الإعلام الغربي مع قائد هيئة تحرير الشام، وأحد أبرز رموز الثورة السورية أحمد الشرع (المعروف بأبو محمّد الجولاني)، تظهر بوضوح زاوية النظر الاستشراقية التي تهيمن على تناول القضايا العربية الإسلامية. ورغم أهمّية السياق السوري وتشابك أبعاده الإنسانية والسياسية، يختار الإعلام الغربي، في أحيانٍ كثيرة، التركيز في قضايا سطحية وهامشية، متجاهلاً الأسئلة الجوهرية المتعلّقة بالتحرّر، والعدالة، والتنمية.
تطغى على هذه اللقاءات أسئلةٌ مكرّرةٌ عن أمور محدّدة مثل الحجاب، وقوانين المرأة، وشرب الكحول، والأندية الرياضية النسائية… وغيرها، وكأنّها المداخل الوحيدة التي يمكن للغرب أن يفهم من خلالها الشرق (العربي والإسلامي). هذا التوجّه يُغذّي الصور النمطية التي تصوّر ثقافات العرب والمسلمين كياناً غريباً ومختلفاً عن بقية ثقافات العالم، بينما تهمل النقاشات الحقيقية التي تتناول كيف يمكن لشعوب (كالشعب السوري) أن تخرج من تحت ركام الدمار إلى بناء مستقبل جديد. الأسئلة تركّز في المظاهر، لكنّها تتجاهل الجذور العميقة للأزمات، وكأنّ المطلوب ليس فهم الواقع، بل تعزيز سردية محدّدة عن الشرق، عن العرب والمسلمين في هذا الشرق تحديداً.
فعندما يُستضاف أحمد الشرع في حوار صحافي غربي، تُطرَح عليه أسئلة عن تفاصيل الحياة اليومية في مناطق سيطرته، مثل فرض الحجاب أو تطبيق القوانين الإسلامية. لكنّ المحاور غالباً ما يتجنّب الحديث عن الأسباب التي دفعت هذه المناطق إلى احتضان المقاومة، أو عن تأثير الحرب الطويلة في سكّانها. نادراً ما تُطرَح أسئلة عن أثر العقوبات الدولية في الاقتصاد المحلّي، أو عن الدور الغربي في إطالة أمد الصراع من خلال تدخّلاته المباشرة وغير المباشرة.
ليس هذا التوجّه الإعلامي جديداً، بل هو امتداد لتقاليد استشراقية معتادة ترى في الشرق مُجرَّد سلسلة من الرموز والمظاهر التي يمكن تأويلها بمعزل عن الواقع الإنساني. الإعلام الغربي يُفضل غالباً القضايا التي تبدو "غريبة" للجمهور الغربي، لكنّه يتجنب الأسئلة التي قد تحرج السياسات الغربية أو تضعها تحت المجهر. مثلاً، لماذا لا يُسأل الغرب عن دوره في تأجيج الصراع السوري؟ لماذا لا يُطرح الحديث عن مسؤولية المجتمع الدولي في دعم الأنظمة القمعية التي ولّدت الثورة أصلاً؟ لماذا تُغيّب تماماً النقاشات حول العقوبات التي تخنق المدنيين في المناطق المُحرَّرة؟
يذكّرنا هذا النمط الإعلامي بما حدث في أفغانستان بعد سقوط نظام "طالبان"، حين كان الجميع ينتظر نقاشات عميقة عن مستقبل البلاد، وآفاق التعليم والتنمية، ودور المجتمع الدولي في إعادة الإعمار. لكن بدلاً من ذلك، انصبّ تركيز المراسلين في قضايا سطحية. في إحدى التغطيات، وقفت مراسلة غربية في شوارع كابول، لتقول بدهشة: "الغريب أن النساء ما زلن يرتدين الحجاب حتى بعد سقوط طالبان والقاعدة"، وكأنّ الحجاب هو القضية الأكثر إلحاحاً في بلد مزّقته الحروب عقوداً، متجاهلةً أن هذا الحجاب هو جزء من الهُويَّة الدينية والثقافية لنساء البلد. هذه النظرة التي تركّز في المظاهر بدلاً من الجوهر تُظهر عدم قدرة الإعلام الغربي (أو ربّما عدم رغبته) في فهم تعقيد المشهد.
اليوم، وفي حواراته مع شخصيات مثل أحمد الشرع، يُكرّر الإعلام الغربي هذا النمط. يختزل الأزمات الكُبرى في أسئلة صغيرة، بينما يتجنّب بوعي القضايا الكُبرى التي تتعلّق بمستقبل الثورة السورية، أو كيف يمكن لشعبها أن يحقّق التحرّر والتنمية في ظلّ هذا الخراب. يُصوّر الشرق المسلم دائماً من خلال تفاصيل صغيرة تُضخّم لتصبح رموزاً تختزل هُويَّة الشعوب بأكملها، بينما تُغيّب القضايا الإنسانية والسياسية العميقة.
الأكثر إزعاجاً في هذه الحوارات تجاهل دور الغرب نفسه في الأوضاع المتردية التي يناقشها. نادراً ما يطرح المحاور الغربي أسئلةً حول المسؤولية التاريخية للسياسات الغربية في دعم الاستبداد أو تمويل الحروب بالوكالة. بدلاً من ذلك، يوضع الشرق دائماً في موضع المتّهم الذي يحتاج إلى تفسير ممارساته وتقاليده وثقافاته أمام عدسة الغرب. والإعلام الغربي، الذي يفترض به أن يكون وسيلةً لفهم العالم وتحليل تعقيداته، يتحوّل في مثل هذه الحوارات منصّةً لإعادة إنتاج الصور النمطية، حيث تسطّح القضايا، وتحوّل استعراضاً إعلامياً يروق للجمهور الغربي، لكنّه لا يخدم الحقيقة.
ليس الإعلام مُجرَّد ناقل للحقائق، بل صانع للسرديات التي تشكّل وعي المجتمعات. وحين يختار الإعلام الغربي التركيز على قضايا سطحية، فإنه يعيد إنتاج الصور القديمة نفسها عن الشرق كياناً غريباً وغير مفهوم. أمّا إذا اختار التعمّق في القضايا الحقيقية، فإنه يمكن أن يكون جسراً للتواصل الإنساني.