الزمن وسيولته... ليس عدوّنا
مع بداية كل عام جديد، يبدو كأن الزمن يطلّ علينا بوجهَين متناقضَين؛ يحمل وعداً بالتجدد والانطلاق، لكنّه في الوقت نفسه يُذكِّرنا بثقله، بسيولته التي لا يمكن السيطرة عليها، وبمروره المستمرّ، الذي يأخذ معه لحظاتنا وأعمارنا. هذا الشعور المزدوج بين الأمل والحسرة يجعلنا نتوقّف أمام الزمن، لا حقيقةً علميةً تُقاس بالدقائق والساعات، بل حقيقةٌ وجوديةٌ نشعر بها في أعماقنا. فهو ليس مُجرَّد أرقام تتوالى أو تواريخ تتراكم في صفحات التقويم. إنه شيء أكثر عمقاً وتعقيداً، يتسلّل إلى وعينا بطرق غير مرئية.
ونحن لا نعيش الزمن خطّاً مستقيماً يبدأ وينتهي، بل تيّاراً سائلاً يتدفّق من حولنا، يتخلّل كلّ شيء، ويعيد تشكيل ذواتنا في كلّ لحظة. وهذه السيولة هي التي تجعل من الزمن تجربةً غامضةً ومربكةً. ونتساءل: ما الزمن حقّاً؟ هل هو شيء نمتلكه، أم شيء يمتلكنا؟
في بعض الأحيان، يبدو الزمن وكأنّه يتباطأ، كما في لحظات الفرح العارم أو الألم الحادّ، إذ تصبح كلّ ثانية تجربةً منفصلةً بذاتها. وفي أحيان أخرى، نجده يتسارع بشكل مرعب، كما لو أن الأيّام والأسابيع تتلاشى من دون أن نلاحظ، ونفاجأ بأن عاماً جديداً قد حلّ علينا، يحمل معه آمالاً جديدة وأعباءً أخرى.
هذا الشعور بسيولة الزمن يزداد حدّةً كلّما تقدّم بنا العمر. في طفولتنا، كان الزمن يبدو وكأنّه محيط شاسع لا نهاية له، وكانت السنوات تمرّ ببطء، وكأنها ترفض الانتهاء. أمّا اليوم، فنجد الزمن وكأنّه يتقلّص، يصبح أكثر كثافةً وسرعةً. كلّ عام يمضي يضيف إلى أعمارنا شعوراً أعمق بالزوال، وكأنّ الزمن ليس مُجرَّد وعاء يحتوينا، بل تيّار يحملنا معه إلى جهة مجهولة.
تعاقبُ الأعوام يجعلنا نواجه أسئلةً وجوديةً عن معنى الزمن ومعنى العمر. هل نحن في سباق مع الزمن؟ أم أنّنا جزء من تيّاره الأبدي؟... حين نفكّر في هذا السؤال، ندرك أن الزمن ليس عدواً خارجياً نحاول التغلّب عليه، بل هو جزء منّا، من طبيعتنا البشرية. نحن نعيش في الزمن وبه، ونجد هُويَّتنا ومعنانا في تعاقب لحظاته. لكن في الوقت نفسه، نحن مأسورون بثقله، بشعورنا بأنه يسلبنا شيئًا ما كلّما مضى.
هذا التناقض يجعلنا نشعر بأنّنا محاصرون بين الماضي والمستقبل. الماضي، بكلّ ما يحمله من ذكريات وتجارب، يبدو وكأنّه يلاحقنا، يُذكِّرنا بما كنّا عليه وما فقدناه. والمستقبل، بكلّ غموضه وتوقّعاته، يثير فينا مزيجاً من الأمل والقلق. وبين هذين القطبين، نجد أنفسنا في الحاضر، نحاول جاهدين أن نفهمه، أن نعيش فيه بعمق، رغم أنّنا ندرك أنه يتسرّب من بين أيدينا لحظةً بعد أخرى.
في بداية كلّ عام جديد، نجد أنفسنا نعيد النظر في علاقتنا مع الزمن. نحاول أن نستغلّ هذا "الانقطاع" الرمزي بين عام مضى وآخر قادم، لإعادة ترتيب حياتنا. لكنّ الحقيقة هي أن هذا الانقطاع مُجرَّد وهم. الزمن لا يعرف الانقطاعات، إنه تيّار مستمرّ، لا يتوقّف ولا يعترف بالتقويمات البشرية. ومع ذلك، نحن نحتاج إلى هذه الأوهام، لأنّها تمنحنا شعوراً بالسيطرة، ولو كان زائفاً. ولهذا فنحن مع كل عام جديد، نجد أنفسنا أمام تحدٍ مزدوج: كيف نعيش الزمن بعمق دون أن نخاف من فقدانه؟ وكيف نصنع من مرور الزمن فرصة للتجدد بدلاً من أن يكون عبئًا يثقل كاهلنا؟
ربما يكمن الحل في تغيير نظرتنا إلى الزمن. بدلاً من أن نراه عدوّاً يجب مقاومته، يمكننا أن نراه معلّماً، رفيقاً يحملنا معه في رحلة الحياة. الزمن في جوهره ليس شيئاً نفقده، بل شيئاً نعيشه. وكلّ لحظة مهما كانت عابرة، تحمل في طيّاتها فرصةً لاكتشاف شيء جديد عن أنفسنا وعن العالم.
ومع بداية هذا العام الجديد، ربّما تكون أكبر هدية يمكن أن نقدّمها لأنفسنا هي التوقّف عن مقاومة الزمن، والبدء في التعايش معه بسلام. أن نقبل سيولته جزءاً من طبيعة الحياة، وأن ندرك أن الزمن لن يتوقّف، لكنّه أيضاً لن يختفي، وهو ليس عدوّنا، بل فرصةٌ لنكتشف أنفسنا ونبني حياتنا في كلّ لحظة مهما كانت عابرة.