لأن الحياة تستحق أن تُعاش

19 ديسمبر 2024

(بهرام حاجو)

+ الخط -

في كل مرّة أقرأ فيها قصة "مأساة مجهول" لماركيز، أشعر أنها قصتنا جميعاً، أو ربما قصة شخص واحد يحمل في طياته أحزان العالم كلها. أجدني أقف أمام هذه الكلمات القصيرة البسيطة كأنها مرآةٌ واسعةٌ تنعكس عليها تلك اللحظات التي نفتقد فيها رؤية الحقيقة، رغم قربها منا. في تلك اللحظات التي تغيب فيها معاني الحياة تحت وطأة اليأس، ننسى أن الألم مشترك، وأن حتى خلف الجدران الأكثر صلابة هناك أسرار صغيرة تحمل حيوات كاملة يُستحقّ أن نتوقف عندها.

يروي ماركيز في قصته مأساة رجل يائس قرّر أن يلقي بنفسه من الطابق العاشر، في هروبٍ نهائيٍّ نحو الفراغ. إنه قرار يبدو حاسماً لا رجعة فيه، لكنه لم يكن يعلم أن سقوطه من ذلك الارتفاع سيكشف له عن جوانب خفية من الحياة لم يكن يراها وهو يقف على الأرض. بينما كان يهوي، عينُه تلتقط ما يجري داخل شقق الجيران. حياة لا تصل أخبارها إلى درج البناية الذي يتشاركه الجميع، ولا تعبّر عن نفسها بوضوح في وجوه ساكنيه، عندما يلتقون مصادفةً أمام المصعد.

مآسٍ منزلية صغيرة تتخفّى خلف الستائر، حبٌّ متعبٌ لكنه موجود، لحظات سعادة خاطفة وسط مشاحنات الحياة اليومية، أسرارٌ صامتةٌ يُسدل عليها الليل ستاراً فلا يراها أحد. هناك، في لحظة السقوط، وهو بين السماء والأرض، بدأت الصورة تتبدّل في ذهنه. أدرك، على نحوٍ مُفجع، أن تلك الحياة التي كان يهرُب منها، الحياة التي بدت له شاحبة وفارغة، كانت رغم كل شيء تستحقّ أن تُعاش.

تثير مفارقة هذه القصة مشاعر معقدة؛ فما الذي قد يدفع الإنسان إلى هذا الهروب القاسي، وإلى فقدان الأمل تمامًا في مواجهة الحياة؟ في أحيان كثيرة، يكون اليأس أعمى. تتشابك خيوط الألم والمشكلات اليومية لتشكّل ضبابًا كثيفًا يمنع الإنسان من رؤية أي ضوء حوله. تصبح الحياة عبئًا، وأي مخرج، حتى لو كان وهميًا أو مأساويًا، يبدو أسهل من البقاء في هذا النفق الطويل. الرجل الذي ألقى بنفسه من الطابق العاشر لم يكن يرى سوى عتمة الحياة، كان يحسّ أن الألم الذي يعيشه فريدٌ من نوعه، أن وحدته أعمق مما يحتمله قلبه، وأن السعادة ليست سوى خرافة تُحكى للبسطاء. لم يكن يدرك أن خلف تلك الجدران المتراصّة في البناية نفسها، هناك آخرون يحملون ما يشبه ألمه: عائلات تتشاجر، لكنها تجتمع حول مائدة واحدة، زوجان يعيشان الحب رغم الخيبات، أمٌّ تبكي في صمت على ابنها الذي لم يعُد، وطفلٌ يضحك بصدق ليخفّف حزن أبٍ عائد من عمل شاق.

لماذا لم يدرك ذلك من قبل؟ لماذا احتاج هذا السقوط القاسي ليكتشف الحقيقة؟ ... يعيش الإنسان، في أحيانٍ كثيرة، داخل فقاعة، يختزل العالم كله في دائرة ضيقة تحيط به، ويغفل عن كل ما يحدُث خارجه. نتصوّر أن الألم الذي نشعر به هو الأكبر والأقسى، وأننا وحدنا من نتحمّل وطأته، بينما يعيش الآخرون حياة كاملة من السعادة. لكن الواقع ليس كذلك. كل إنسان يحمل في داخله وجعاً خفيّاً لا يتحدّث عنه، حياة مليئة بالهزائم الصغيرة والانتصارات العابرة، بالمشاعر المتناقضة التي تكتب تفاصيل أيامه. ومع ذلك، يصرّ بعضهم على الاستمرار، على التمسّك بفرص الحياة، ولو كانت قليلة، بينما يفقد آخرون قدرتهم على رؤية الجمال وسط الفوضى.

لم يكن السقوط في هذه القصة مجرّد فعل جسدي، بل كان سقوطاً رمزيّاً في أعماق الحياة نفسها. كان لحظة تجلٍّ غريبة، لوهلة قصيرة جداً، لكنها كافية ليرى فيها الرجل الحقيقة: أن الحياة ليست مثالية، لكنها حقيقية، وأن في داخلها مزيجاً من المرارة والعذوبة يستحقّ أن نعيشه. اكتشف أنه ليس وحده، وأن البشر جميعاً يكافحون، وأن الألم ليس بالضرورة نهاية الطريق، بل جزء من الرحلة نفسها. للأسف، كان هذا الإدراك متأخّراً جدّاً، لأن النهاية كانت قد كُتبت بالفعل.

كتب ماركيز "مأساة مجهول" كأنه يهمس لنا: لا تتعجّلوا الحكم على الحياة، ولا تُسدلوا ستار النهاية في لحظة ضعف. ربما كان كل ما نحتاجه أحياناً أن نغير الزاوية التي ننظر منها إلى العالم، فالحياة، مهما كانت قاسية، تستحقّ أن تُعاش.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.