التأويل السياسي المُفرِط

12 نوفمبر 2024

(نجيب بلخوجة)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

في كتابه "التأويل والتأويل المفرط" (جامعة كامبردج، لندن، 1992)، يعيب أمبرتو إيكو على التأويل المفرط الذي تلجأ إليه بعض القراءات أنها تذهب فيه بعيداً في استنباط دلالات النصّ إلى حدود المبالغات، وإخراج "الكلم من موضعه"، فبينما التأويل عملية طبيعية يقوم بها القارئ أو المتلقّي لإنتاج المعنى، فإن التأويل المفرط هو دخولٌ في الهذيان.
أتذكّر مصطلحَ "التأويل المفرط" دائماً، على الرغم من أنه ليس من أدوات القراءة السياسية المعتادة، ولا من مجال النقد الأدبي، وأنا أطالع ردّات الفعل السياسية العراقية على الكلام الذي يصدر، في مناسبات مختلفة، من مرجعية النجف الشيعية.
أوضحت المرجعية، مبكّراً، أنها لا تمارس السياسة بشكل مباشر، على الضدّ من نظرية ولاية الفقيه، وإنما تمنح النصح والإرشاد. لكن حدود النصح والإرشاد اتّسعت بحكم الأمر الواقع خلال العقدَين الأخيرَين، ليكون لهما أدوار حاسمة في توجيه الوضع السياسي في العراق. وبعض هذا الاتساع جاء بسبب حماسة الجمهور العامّ، ورغبته بالاتكاء على زعيم أو قائد روحيّ يمحضه النصح الذي يتحوّل إلى ما يشبه الأوامر المُلزِمة، وبعضه الآخر، وهو موضع النقاش هنا، جاء من الطبقة السياسية، التي أثبتت الوقائع أنها غير معنية بالاستجابة للنصح والإرشاد، قدر عنايتها بـ"استعمال" هذا النصح لأغراضها السياسية، والاستعمال، كما يرى مراقبون كثيرون، انطلق في مناسبات عديدة، لينجز وقائع في الأرض بعيدة، بل ومتناقضة أحياناً، مع جوهر ومقاصد النصح الذي تقدّمه مرجعية النجف.
يرغب كثيرون في المجتمع الشيعي العراقي أن تعبر مرجعية النجف حدود النصح والإرشاد الى إطلاق الأوامر، والتدخّل المباشر في العمل السياسي، بما يشبه ولاية الفقيه في إيران، ولكن بنسخةٍ عراقية. والسبب في هذه الرغبة هو شعورهم بالثقة، من خلال مطالعة خطابات المرجعية، أنها تدعم الدولة وبناء المؤسّسات، فلا بأس حينها أن تندفع المرجعية بخطوة أكبر، يناقض متبنَّياتها الفقهية التي ميّزت مرجعية النجف عن غيرها طوال ألف عام مضت. هذه الرغبة، وإن كانت سلبيةً وغيرَ واقعيةٍ، إلّا أنها تكشف شعور الناس بالضيق والكآبة لغياب سلطة الدولة، واستمرار مظاهر الفوضى التي تخلقها الجماعات المسلّحة في بنيان الدولة والمجتمع.
دخلت المرجعية، ثمّ التأويل والتأويل المفرط لخطابها، في دائرة الأعلى متابعةً ومشاهدةً خلال الأسبوع الماضي، بعد لقائها بممثّل الأمين العام للأمم المتحدة ومفوّضها الجديد في بعثة يونامي في العراق، الدبلوماسي العُماني محمّد الحسّان، بديلاً من جينين بلاسخارت. ويبدو أن أولى مهامّه في منصبه الجديد هي اللقاء مع السيستاني بمقرّه في النجف.
ذكر موقع المرجع السيستاني في الإنترنت خلاصةً لما جاء في اللقاء، ومن بينها تأكيد ضرورة "إعداد خطط علمية وعملية لإدارة البلد اعتماداً على مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنّم مواقع المسؤولية، ومنع التدخّلات الخارجية بمختلف وجوهها، وتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، ومكافحة الفساد على جميع المستويات". وعلى الرغم من أن ردّات الفعل المختلفة في الإعلام ومواقع التواصل العراقية كانت تدور حول عبارة "حصر السلاح بيد الدولة"، إلّا أنها ليست جديدةً، ولا تتكرّر على لسان المرجعية فحسب، ورؤساء الحكومات المتعاقبة، إنما على لسان أصحاب السلاح أنفسهم أيضاً. إنها ليست النقطة التي مثّلت ضربةً موجعةً لتيّار السلاح. وإنما لاقترانها مع عبارة أخيرة في البيان تقول "ولكن يبدو أن أمام العراقيين مساراً طويلاً إلى أن يصلوا إلى تحقيق ذلك، أعانهم الله عليه".
فهنا إقرار واضح أن المطالب السابقة كلّها لم تتحقّق بعد، فبعد عشرين سنة لا تنميةَ ولا تحكيمَ لسلطة القانون ولا محاربةَ للفساد ولا حصرَ للسلاح بيد الدولة. وعلى الرغم من أن البيان واضح ولا يحتاج إلى تأويل، إلّا أن القنوات الاعلامية التابعة لتيّارات السلاح، ومدوّنيهم في مواقع التواصل الاجتماعي، عبروا مرحلةَ التأويل المفرط إلى الهذيان، فالمرجعية، بزعمهم، لا تقصدهم، ولا تقصد المليشيات المتمسّحة بعنوان المقاومة، إنما جنساً غريباً من الكائنات لا يستطيع أحدٌ التعرّف إليه.
إذا مررنا على هذه الخطابات التأويلية كلّها التي تعيد انتاج خطاب المرجعية ليكون شيئاً آخرَ، فإننا سنصل إلى نتيجةٍ أنه لا ضرورةَ للحديث عن حصر السلاح في يد الدولة، لأنه لا يوجد سلاح خارج سلطة الدولة. فيصبح كلام المرجعية حينها غامضاً ولا دلالة له.

أحمد سعداوي
أحمد سعداوي
كاتب وروائي عراقي