التضامن المقلوب مع قضية فلسطين
تستعيد الأحداث التي تتالت في سورية منذ اندلاع الثورة عام 2011، وأفضت أخيراً إلى زوال نظام بشّار الأسد، الإشكالية القديمة المتعلّقة بالتضامن بين الشعوب العربية، ومفادها، هل يجوز أن يقبل شعب عربي تحقيق مصالحه الوطنية على حساب شعبٍ عربي آخر، كأن يقبل تضامن نظام عربي مع قضيته في الوقت الذي يسوم ذلك النظام شعبه الظلم والقمع والقتل والتشريد، ويواجه ثورة شعبية ترفضه وتبتغي أن تطيحه؟
تلك إشكالية تتكرّر مع الفلسطينيين منذ بداية قضيتهم، وكانت قد تجلّت في أوضح صورها مع نظام صدّام حسين؛ إذ في وقت كان ذلك النظام يتبنّى دعم فلسطين وتوعّد إسرائيل، كانت يداه قد تلطّخت بدماء العراقيين منذ سنوات حكمه الأولى في أواخر سبعينيّات القرن العشرين، ثمّ استباح الكويت عام 1990، مواصلاً حروبه العبثية التي دمّرت اقتصاد العراق، ووجّهت أموال صناديق التنمية العربية لصالح التسليح بدل التنمية، محافظاً في الآن ذاته على خطابه الصوتي عن مصالح العرب وعن تحرير فلسطين، الذي عزّزه بإطلاق صواريخه الـ39 باتجاه إسرائيل.
التضامن المقبول مع فلسطين يقدّمه الذين تتوافق أخلاقهم مع أخلاق قضية فلسطين
وقفت منظمّة التحرير الفلسطينية في صفّه يومها، في الانقسام العربي الخطير الذي رافق اجتياح الكويت، بعد سنوات من مساندة ذلك البلد قضية فلسطين. اختارت القيادة الفلسطينية، وأيّدها في ذلك فلسطينيون كثيرون (في داخل فلسطين وخارجها) التصفيق لصدّام حسين، بغضّ النظر عن ممارساته الدموية تجاه العراقيين، ثمّ تجاه الكويتيين. وما يزال فلسطينيون كثيرون يعتبرونه "أسد العرب" الذي واجه إسرائيل، رغم أن نتيجة ما فعله كانت صفراً في ما يخص قضية فلسطين، ووبالاً على الشعب العراقي.
خلال سنوات الثورة السورية، كانت أصوات كثيرة ترى أن على الفلسطينيين الانحياز إلى نظام الأسد، وتمنت بقاءه، وأيّدته في مواجهة ثورة شعبه، بدعوى أنه ينتمي إلى محور المقاومة الذي يعادي إسرائيل، وأن وجوده ضمانة لاستمرار المقاومة في لبنان، ومن ثمّ إسناد حركات المقاومة الفلسطينية، كما جرى منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى في غزّة. كانت تلك دعوة شبيهة بما جرى مع نظام صدّام؛ أغمضوا أعينكم عن كل ما فعله نظام الأسد من قتل السوريين وتشريدهم منذ اندلاع الثورة، وما فعله على مرّ العقود التي سبقت الثورة من طغيان واستباحة للبلاد وترسيخ للطائفية فيها، ما دام "يقول" إنّه مع فلسطين.
المسكوت عنه في تلك الدعوة، كان ترويج التنازل عن الجانب الأخلاقي للقضية الفلسطينية. فهل يجوز أن يقبل الفلسطينيون تحرير أرضهم على حساب استباحة شعب عربي آخر، واحتلاله من طغمة فاسدة مستبدّة؟ وهل يمكن تجزئة مسألة الحرّية بطلبها للفلسطينيين وإهمال طلبها لغيرهم من العرب؟ ثمّ هل يمكن أن ينشد الفلسطينيون مساندتهم في قضية التحرير إلا من بلاد عربية حرّة وشعوب عربية تعيش حرّيتها؟
ليست تلك عين المسألة على الأغلب، بل إن كثيرين من أولئك الفلسطينيين الذين ينحازون إلى الاستبداد، إنما يقعون فريسةَ الدعاية الكاذبة التي تطلقها أنظمة الطغاة ومفادها التغنّي بفلسطين للتغطية على جرائمها المحلّية، فيصدّق الفلسطينيون أن ذلك النظام يقف مع حقهم في تحرير أرضهم، متغافلين عن أنه لو كان يقف مع الحقّ لما مارس الظلم والباطل ضدّ شعبه، ففاقد الشيء (كما يعرفون) لا يعطيه.
جدلية الحرّية والتحرير جزءٌ من القصّة هنا، وليست كلّها، فالجدلية مفادها: هل نحرّر فلسطين بأنظمة ديكتاتورية لأنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ثمّ نقيم الحرّية والعدالة في بلادنا العربية؟ أم أن تحرير فلسطين لا سبيل له إلا بتحقيق العدالة والحرّية في بلادنا العربية، لأن التحرير إنما تنجزه شعوب حرّة؟... الأمر في حالتنا هذه يفيض عن حدود تلك الجدلية، ويتجاوزها ليشمل ضرورة تصديق رواية أنظمة الطغيان بأنها تريد فعلاً صناعة التحرير والتصدّي لإنجازه، بينما هي، في حقيقة الأمر، تتاجر بقضية فلسطين كسباً لشرعية تفتقدها بعد أن قفزت إلى الحكم بانقلاب عسكري من غير موافقة شعبية، وثبّتت أركانها فيه بإشاعة الفتن الطائفية والقبائلية بين أبناء الشعب كي تضمن انشغالهم عنها، وتستجلب ولاءً عنصرياً من إحدى فئاته. وهنا لا يكون الأمر منوطاً بالاجتهاد؛ هل نقدّم الحرّية على التحرير أم التحرير على الحرّية؟ بل يلزمه تواطؤ وانتهازية لا حدود لهما. تواطؤ مع الظالم المستبدّ، الذي يهدر مصالح شعبه وحقوقه وكرامته، من أجل الوهم القائل بأنه يساعد في تحقيق آمال الفلسطينيين.
الفلسطينيون الذين ينحازون إلى الاستبداد يقعون فريسةَ الدعاية الكاذبة التي تطلقها أنظمة الطغاة، ومفادها التغنّي بفلسطين للتغطية على جرائمها المحلّية
المسألة إذاً أن الذين يدعون إلى مساندة نظام عربي مستبدّ ظالم، من أبناء الشعب الفلسطيني، ويروّجون أكاذيبه في مقاومة إسرائيل، يفتقرون إلى الوعي بمدى نبل قضيتهم، ذلك النبل الذي لا يجوز معه قبول أن يساندها الطغاة ويقف في صفّها المجرمون، ويتضامن معها القتلة الموغلون في دماء شعوبهم، حتى لو كانوا مقاومين للاحتلال فعلاً (وهم لم يكونوا كذلك يوماً)، بل الصحيح أن جوهر حكمهم ظلّ على مرّ العقود مشابهاً لجوهر الاحتلال الإسرائيلي، ويمثل معه وجهاً آخر لعملة واحدة من الهمجية والطغيان، بدليل إقدامهم على قتل عشرات الآلاف من أبناء شعبهم بدم بارد، وما يتبدى للعالم بعد سقوطهم من وحشية السجون ولا إنسانيتها.
التضامن المقبول مع القضية الفلسطينية هو الذي يقدّمه الذين تتوافق أخلاقهم مع أخلاقية قضية فلسطين، وهو الذي تقدّمه الأنظمة الصالحة على جسر من الحرّية والعدالة، أما الذي يقدم على جسر الطغيان والظلم فتضامن مقلوب، لا ريب أن فلسطين لا تريده ولا تنتظره.