الحرب كما يريدها بوتين
هي الحرب إذاً، فعلها فلاديمير بوتين، وبدأ غزواً واسعاً لأوكرانيا، غير آبه بكل المحاولات الدبلوماسية لثنيه عن الخطوة.
ما هي حدود الحرب، كم من الوقت ستستغرق، عدد قتلاها، كيف ستنتهي، هل سيحقق بوتين شروطه، هل ستقف الولايات المتحدة إلى جانب حلف الناتو في موقف المتفرّج والمُدين فقط، أم هل سنشهد حرب استنزاف طويلة؟.. جميعها أسئلة تبدو منطقية في لحظة رؤية أعمدة الدخان تتصاعد جرّاء الضربات الروسية مع انطلاق العمليات العسكرية الموسّعة. ولكن لا إجابات سهلة عليها، لأنه ببساطة لا حدود لما يمكن أن يفعله بوتين لتحقيق أهدافه، ولا يقين بالمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في دعم أوكرانيا بوجه التغوّل الروسي.
يمكن تلخيص كل ما تريده موسكو بكلمة واحدة، "إخضاع" أوكرانيا للكرملين، وجعلها تتلو فعل الندامة لتفكيرها في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وبالتجرّؤ بالتلميح بإمكانية الانسحاب من مذكّرة بودابست المتعلقة بالأسلحة النووية. وفوق ذلك كله، تحويلها إلى عِبرة لجميع الدول المجاورة.
كل الضجيج الذي افتعله المسؤولون الروس في الأيام الماضية، بما في ذلك قائمة الأكاذيب التي ردّدها بوتين، وبينها اتهام أوكرانيا بالسعي إلى امتلاك الأسلحة النووية، كان مجرّد تمرير للوقت، حتى اكتمال استعدادات الحرب وإطلاق ساعة الصفر، بخطط روسية واضحة. العنوان الأبرز جعل أوكرانيا منزوعة السلاح بلا بنية تحتية عسكرية من أنظمة دفاع جوي ومطارات جوية وقوات جوية وأسلحة بدقةٍ عالية، ثم طي صفحة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، والرضوخ لما تريده روسيا.
يحلو لبوتين وباقي مسؤوليه التكرار أن تحديد مسار الحرب في الساعات المقبلة يعود إلى أوكرانيا، لا إلى روسيا، فإما أن تستمر كييف في المقاومة، وتدفع ثمن ذلك مضاعفاً، وهذا ذنبها، أو أن تستسلم سريعاً وتتحمل كل العقاب الذي سينزل بها، لأن هذا ذنبها أيضاً.
تحدّث بوتين بثقة في الفيديو الذي بثّ له أمس الخميس (ذكرت صحيفة تلغراف البريطانية أن البيانات الرقمية للفيديو تشير إلى أنه سُجّل قبيل مساء الاثنين الماضي)، داعياً عناصر الجيش الأوكراني إلى رمي السلاح والذهاب إلى منازلهم. وهذه الثقة لم تكن لتظهر على هذا النحو لولا أنه استطاع، تحت أنظار الغرب، حشد نحو مائتي ألف عسكري على حدود أوكرانيا طوال الفترة الماضية، لتصبح كييف في موازين القوى العسكرية عاجزةً عن الصمود طويلاً.
يمكن تخيّل بوتين يقهقه عالياً ومنتشياً بينما يتابع ردود الفعل الأوروبية على غزو أوكرانيا أو يسمع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وهو يدعو العالم إلى إنشاء تحالف ضد الرئيس الروسي لإجباره على السلام. يدرك بوتين جيداً أن لا أحد سيغامر بالتدخل عسكرياً دفاعاً عن أوكرانيا، فهذا ما أعلنته واشنطن بشكل واضح، وكذلك حلف شمال الأطلسي. وعلى الرغم من أن سيناريو الغزو على هذا النحو كان معروفاً، وحتى توقيته كان معلوماً بحسب خلاصات أجهزة الاستخبارات الأميركية والأوروبية، فإن كل ما حصلت عليه كييف، حتى بعد الاعتراف بجمهورتي دونيتسك ولوغانسك، دعم لفظي وأسلحة محدودة وعقوبات على روسيا، ينتظر أن تتصاعد وتصبح أكثر إيلاماً بعد بدء الغزو الموسع.
ولكن ما يعيه بوتين أيضاً، وهذا الأهم، أنه منذ إطلاق العملية العسكرية فُتِح باب التفاوض مجدّداً على مصراعيه، ليس فقط لتحديد مصير أوكرانيا، بل أيضا رسم مستقبل أوروبا الأمني لعقود طويلة مقبلة. من سيصرخ أولاً سيدفع الثمن الأعلى في المرحلة المقبلة، لكن تداعيات هذه الأزمة لن توفر أحداً، خصوصاً في أوروبا التي ستكون أمام تحوّلات سريعة لكن بعيدة المدى.