الحقيقة المغيّبة في سورية
على مدى أكثر من عقد من عمر الثورة السورية، رُوي الكثير عن مجازر نظام الأسد. كذلك وثِّقت مجازر بالصوت والصورة. بالرصاص والكيماوي والبراميل المتفجّرة. لم يترك النظام وسيلة يمكن استخدامها لقتل السوريين ولم يجرّبها. بدا أن سورية كلها ساحة اختبار متاحة له.
لكن ما يظهر كان دائماً جزءاً ضئيلاً من حجم الجرائم المرتكبة. ذهبت بعض الشهادات مع من قتلوا على أيدي النظام وعصاباته، وبعضها الآخر لم يخرج إلى العلن، لأن هناك من لم يجرؤ على سرد ما عايشه من لحظات الرعب والموت. لكن جزءاً آخر ويسيراً من هذه الجرائم جرى الحديث عنه ولم يأخذ حقه في النشر والتحقيق والتوثيق. ولذلك عندما خرجت تفاصيل مجزرة حي التضامن التي توثق إعدام عشرات المدنيين ميدانياً وحرق جثثهم، فإنها لم تكن جديدة بالنسبة لأبناء المنطقة، فقد كانوا يعرفون جيداً ما كان يجري في أحيائهم على أيدي عناصر أمن النظام وشبّيحته.
مع ذلك، فإن الفيديو المسرّب للمجزرة، بنسخته التي نشرتها صحيفة الغارديان، والتي تخفي فيه وجوه الضحايا، كان صادماً لهم. صحيحٌ أن الفيديو أظهر بوضوح هوية الجناة ولا مبالاتهم، لكن الأهم أنه وثّق بعضاً من آخر لحظات الضحايا. أما النسخة الثانية الخالية من أي تقطيع أو إخفاء للوجوه بدقائقها التي تقارب السبع، وتظهر فيها حفرة الموت بوضوح، وأصوات الضحايا قبل أن يُدفعوا إليها، وأنفاسهم ونظراتهم الأخيرة قبل إطلاق الرصاص نحوهم ليتكدّسوا فوق بعضهم بعضا جثثاً هامدة فكانت الأقسى، كأنها الجحيم. إنها من بين أكثر الصور تعبيراً عن عمق إجرام هذا النظام الذي لا يتردّد في إعدام العشرات ميدانياً وحرق جثثهم.
على الأرجح، هناك مئات العائلات، إن لم يكن الآلاف، ممن فقدت أبناءها خلال تلك الفترة من عمر الحرب في تلك المنطقة تحديداً، وجدت نفسها مضطرّة لمشاهدة الفيديو أكثر من مرّة لقطع الشك باليقين، ومحاولة تحديد مصير مفقوديها. ويمكن تصوّر هول المعاناة وهي تدقق في الوجوه وتتصوّر مصيراً مشابهاً لأبنائها المخفيين ممن لم تظهر أي معلومة عنهم طوال السنوات الماضية.
تحقيق المجزرة بتفاصيله الكثيرة والفيديو المسرّب كأنهما شرارة أذنت لاستعادة ما في ذاكرة السوريين من مآس، وإعادتها إلى الحيز العام. بدا كأن المجزرة أعادت تشغيل ذلك الشريط المحفور في الذاكرة، والذي يأبى النسيان أو التجاوز بالنسبة لعائلات الضحايا، ولم يكن يحظى بما يستحق من اهتمام إعلامياً.
كان هناك عشرات على الأقل ممن لديهم تفاصيل لو مشتّتة، عما جرى تلك الفترة. أعادوا نشر تدويناتٍ قديمة لهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وكأنهم يقولون "ألم نحدّثكم" أو استذكار تفاصيل تلك الفترة وقصص ضحايا خرجوا من منازلهم ولم يعودوا إليها يوماً.
ليس مبالغة القول إن أي بيت سوري اليوم لا يخلو من مأساة موقعة باسم النظام، سواء على هيئة قتلى أو معتقلين أو مخفيين أو منفيين. تمتد المأساة داخل سورية وخارجها، ولن يكون تجاوزها ممكناً. بعد سنة أو عشر سنوات أو 20 سنة، وحدها الحقيقة ستبقى المطلب الأساسي للعائلات. والحقيقة غير مطروحة بالنسبة إليهم واحدا من من بنود العدالة الانتقالية تتيح إنجاز المصالحة، أو تندرج ضمن حقهم في الإنصاف أو التعويض .. فذلك حديث لزمن آخر. الحقيقة بالنسبة إليهم هي مجرّد امتلاك معلومة دقيقة، مهما كانت مؤلمة عن ذويهم، تتيح لهم التعايش مع الواقع عوضا عن اضطرارهم للتعامل مع حالة اللايقين، ما يُبقي جروحهم مفتوحة، وتتجدّد معاناتهم مع كل مجزرة جديدة يتم اكتشافها.