الحيلة والفتيلة
كان عليّ أن أوزّع عينيّ في اتجاهين، واحدة على الكتاب، والأخرى على فتيلة مصباح الكاز، فالوقت محدودٌ للغاية، وعليّ أن أنجز الواجب المدرسيّ قبل انتهاء الفتيلة، التي هي منتهى "الحيلة"، وفق أمي التي درجت على ترداد المثل الذي يقرن بين "الحيلة والفتيلة" للدلالة على شحّ الإمكانات. على سبيل المثال، اعتادت أن تحصي، بين حين وآخر، فلول النقود المتبقية في حوزتها، فتمسك حفنة الملاليم بيدها وهي تردّد: "هاي الحيلة والفتيلة".
آنذاك، لم أكن أفهم العلاقة بين الحيلة والفتيلة، بل كان أقصى طموحي أن تسعفني فتيلة مصباح الكاز في إنهاء واجبي المدرسيّ. كان نوعًا من السباق بيني وبين الفتيلة المخصّصة لي في المساء، ولم تكن أمي على استعدادٍ لتجديدها، فهي "الحيلة" المتاحة لي لمراوغة الوقت. أحيانًا أنتصر عليها، وأفوز في السباق قبل انطفائها، وأحيانًا تخذلني السرعة، فتفوز الفتيلة عندما يتداعى لهيبها رويدًا رويدًا، وصولًا إلى اللحظة الفاصلة بين الضوء الشاحب والظلام الدامس، ولا يتبقى غير رائحة الكاز التي تتفاقم حدّتها مع انطفاء الفتيلة، ولا يكون من خيارٍ أمامي غير إعلان هزيمتي والخلود إلى فراشي، بانتظار فتيلةٍ جديدة، و"حيلةٍ" أخرى لمراوغة الزمن.
لا أدري لماذا بقي سباقي مع الفتيلة إياها قائما على الرغم من انطفاء عصر الفتائل، ودخول زمن الكهرباء والحداثة إلى حياتنا، فعلى الدوام يصاحبني شعورٌ بالانشداد إلى فتيلة وهمية توشك على الانطفاء، وبأن عليّ إنجاز مهمّاتي، وفق ما تتيحه لي الفتيلة من ضوء، سيما وأن الفتيلة منبع الحيلة كما تعلّمت من أمي، وفقدانها يعني فقدان القدرة على مراوغة الحياة ذات الدقائق المعدودة التي تتسرّب من أعمارنا يومًا إثر يوم.
ولهذا السباق المحموم ثمنه الذي لا يشعر بفداحته إلا من كان معلّقًا بضوء الفتائل، وعلى الأغلب يخسر هذا الطراز من البشر تفاصيل ماتعة كثيرة، تمامًا مثل الفرق بين من يقطع المسافة نفسها بعربةٍ مسرعة ومن يقطعها ماشيًا على قدميه. وأراهن أن كثيرين تكبّدوا هذا الثمن؛ لأنهم ينهبون المسافات على صفيح ساخن.
عمومًا، يهون الأمر لو ظلّ مقتصرًا على مواطنين عاديين من أمثالي، يراوغون فتائل الحياة وفق مثل أمي وجيلها "الحيلة والفتيلة"، غير أن الكارثة تحدُث عندما يخامر هذا الشعور قادةً وسياسيين عربًا يشعرون أن فتيلة أعمارهم تختصر الزمن البشريّ كله من آدم إلى يوم القيامة، فتكون قراراتهم وتحرّكاتهم كلها مقترنة بطول هذه الفتيلة، ولا يعترفون بفتائل سابقة أو لاحقة أو بديلة لهم، فتراهم يتخبّطون باتخاذ قراراتٍ تمسّ مستقبل شعوبهم وأجياله اللاحقة وكأنهم في سباقٍ مع الزمن، والأمثلة عديدة على ذلك.
في مقدمة هؤلاء، مثلًا، الرئيس ياسر عرفات، الذي قرن مسار منظمة التحرير الفلسطينية بحياته نفسها، انطلاقًا من إحساسه بأنه صاحب الفضل الأكبر في تأسيسها، فراوده إحساسٌ أن من حقّه اتخاذ سائر القرارات التي توصل الثورة إلى أهدافها، بصرف النظر عن الوسيلة، فكان أن تبدّلت الوسائل من الرصاصة إلى "غصن الزيتون". وكان يشعر أنه ملزمٌ بتحقيق وعده في "الصلاة في المسجد الأقصى"، وكأنه يحمل في متاعه الشعب المشرّد نفسه الذي تعهد له بإعادته إلى وطنه السليب، فهو الرمز الذي يختصر الإرادة الشعبية. ولم يكتشف مبلغ خديعته إلا عندما رأى فتيلة حياته تذوي في المقاطعة المحاصرة من الخصم الذي صافحه بالأمس. وأراهن أنه لو قيّض له أن يعيش عمرًا أطول من ذلك، لتغيرت قراراته "المصيرية" كلها، ولعرف أن مصائر الشعوب لا ترتبط بفتائل القادة، وأن ثمّة "حيلًا" كثيرة في جعبة هذه الشعوب، في وسعهم أن يشعلوها ويستأنفوا في ضوئها المسيرة، بعيدًا عن هذا الانشداد العدميّ إلى سباقٍ لا يدور إلا في ذهني وذهن القائد العربيّ فقط.