الخذلان المستدام لغزّة
أكثر من ثلاثة أشهر ونصف الشهر مرت منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة، عانى خلالها أهالي القطاع من شتّى فصول الجرائم الإسرائيلية. يموتون بالقصف أو تحت أنقاض منازل معدودة لم تدمّر بعد، لعجز الأهالي عن انتشالهم من تحت الرّكام أو بالقنص أو لغياب العلاج في المستشفيات أو حتى لعدم القدرة على الوصول إليها... وفوق ذلك كله لم يعُد الموت جوعاً مجازاً. من لا يزال قادراً على نقل جزء من صورة الوضع في غزة يروي هول المعاناة. الصغار كما الكبار يقضون ساعات يومهم جياعا يبحثون عما يسدّون به رمقهم، ولكن من دون جدوى، تماماً مثل محاولاتهم الفاشلة للحصول على قليلٍ من الدفء في هذا الطقس البارد، من داخل خيام تفتقر لأبسط المقوّمات. أما العالم من حولهم، بما في ذلك العالم العربي، فيكتفي بالمشاهدة. يشاهد بعضهم ولا يبالي، ويكتفي آخرون برفع أيديهم بالدعاء لهم أو التحسّر على أحوالهم، بينما لا يزال المعبر الوحيد القادر على إنقاذ الأهالي في غزّة من موت محقق مغلقاً، لأن هناك من لا يجرؤ على فتحه لعبور المساعدات، رغم كل ما تعرّض له من إذلال لفظي على يد الإسرائيلي، سواء أمام محكمة العدل الدولية، عندما حمّل الاحتلال مصر مسؤولية عدم فتح المعبر أو من خلال التصريحات الإسرائيلية.
صحيحٌ أن أهل غزّة اعتادوا الخذلان، من الأقربين قبل البعيدين، بعدما تُركوا لأكثر من عقد ونصف العقد يواجهون الحصار والموت البطيء بمفردهم، لكن هذه المرحلة مختلفة. حجم الجرائم الإسرائيلية في هذا العدوان يفوق مجموع كل الحروب السابقة. لم يكن هناك منذ اليوم الأول ما بعد عملية 7 أكتوبر أي رادع أمام الاحتلال في الإيغال بالتوحّش ضمن هدفٍ واضحٍ بإبادة هذا الشعب. حقيقة حاولت جنوب أفريقيا تفصيلها في دعواها أمام محكمة العدل الدولية، عندما أشارت إلى أن غزّة، التي يسكنها حوالي 2.3 مليون شخص، نصفهم تقريباً من الأطفال تعرّضت من قبل إسرائيل لما وُصف بأنه من إحدى "أعنف حملات القصف التقليدي" في التاريخ للحرب الحديثة. وشرحت كيف أنه "بحلول 29 أكتوبر 2023 وحده (أي بعد ثلاثة أسابيع فقط من بدء العدوان)، تشير التقديرات إلى أنه تم إسقاط ستة آلاف قنبلة أسبوعياً على هذا القطاع الصغير". وكيف أنه "بعد شهرين، أحدثت الهجمات العسكرية الإسرائيلية "دماراً أكبر من حجم الدمار الذي لحق بمدينة حلب السورية بين سنتي 2012 و2016، ومدينة ماريوبول في أوكرانيا، أو قصف الحلفاء ألمانيا في الحرب العالمية الثانية".
وذكّرت الدعوى، لمن يختار التناسي عمداً لأنه لا مجال لتجاهل حجم الجرائم الإسرائيلية، أنّ "ما يزيد على 1.9 مليون فلسطيني من أصل سكان غزّة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة - أي ما يقرب من 85% من السكان - قد أُجبروا على ترك منازلهم. ولا يوجد مكان آمن لهم للفرار إليه، أما أولئك الذين لا يستطيعون المغادرة أو يرفضون النزوح فقد قُتلوا أو هم معرضون بشدة لخطر القتل في منازلهم". كما استفاضت في شرح الدمار الذي لحق بقطاعي الصحّة والخدمات، مؤكدة أنه "كانت الأدلة على النية المحددة للمسؤولين الإسرائيليين لارتكاب والاستمرار في ارتكاب أعمال إبادة جماعية أو الفشل في منعها كبيرة وصريحة منذ أكتوبر 2023. هذه التصريحات بالنية (عند دمجها مع مستوى القتل والتشويه والتشريد والدمار على الأرض، إلى جانب الحصار) تشهد على إبادةٍ جماعيةٍ مستمرّة ومتطوّرة".
لم يعُد أهالي غزّة يتحدّثون عن أحلام للمستقبل أو حتى يفكرون بالغد، جل ما يعنيهم اليوم وقف إبادتهم علهم يستطيعون لو بعد حين العودة إلى حياة شبه طبيعية، لأنهم يعون جيداً أن حجم الجرائم الإسرائيلية، بما في ذلك التدمير الممنهج الذي تعرض له القطاع لجعله غير قابل للحياة، إلى جانب الخسائر البشرية المهولة والفقد الذي طاول كل أسرة في القطاع، لن يتيح العودة إلى حياة طبيعية.