الدواء فيه سُمّّ قاتل
عندما تتواتر الأخبار عن تلوّث المياه، التي يشربها ويستخدمها النازحون البائسون في مخيمات النزوح ومراكز الإيواء في وسط قطاع غزّة وجنوبه، أتذكّر قصّة فيلم قديم صُنِّف ضمن أفضل مائة فيلم في السينما العربية، وحمل عنوان "حياة أو موت". باختصار، يحكي قصّة طفلة ابتاعت دواءً أخطأ الصيدلاني في تركيبه، وأصبح سُمّاً سوف يقتل أباها في حال تناوله. وتصارع طوال أحداث الفيلم، وهي تحمل الدواء لكي تصل به إلى الأب المريض، الذي ينتظره بلهفة ليُسكِّن آلامه.
تذكّرتُ أحداث الفيلم حين كشفت تقارير صادرة عن منظّمة الصحة العالمية، ومُؤسّسات صحّية محلّية، انتشار فيروس شلل الأطفال بسبب تلوّث المياه التي يحصل عليها النازحون، والمياه التي هي سرّ الحياة، والتي يجاهد الناس للحصول عليها لكي يبقوا أحياءً، فيشربون منها ويغتسلون ويغسلون ثيابهم وأوانيهم، ومع خوضهم معارك يومية من أجل الحصول على أقلّ القليل منها، أصبحت اليوم سبباً في انتشار العدوى وتحمل الأمراض القاتلة إليهم.
في منطقة مواصي خانيونس على سبيل المثال، وحيث يعيش أكبر تجمّع للنازحين، والتي تقع في الشريط الساحلي للبحر الأبيض المتوسّط، وتمتدّ مسافة 12 كيلومتراً، وبعمق كيلومتر واحد، وتبدأ من دير البلح شمالاً لتمرّ بمدينة خانيونس، وإلى بداية مدينة رفح في الجنوب. هذه المساحة التي سُمّيت بهذا الاسم لأنّها تعتمد على وجود الحفر الممتلئة بالماء المُستخرَج من المياه الجوفية، وحيث تُروَى منها المزروعات التي تعدّ من أجود محاصيل القطاع بسبب عذوبة مياه الريّ وخصوبة أراضيها، أصبحت اليوم على نقيض شهرتها تماماً، مع تسرّب مياه الحفر الامتصاصية التي يحفرها النازحون بطرائق بدائية عوضاً عن المراحيض، وبالقرب من خيامهم، فبلغ عددها حوالي مائة ألف حفرة. وقد تحوّلت هذه المحاولة لتجاوز حياة الخيام البدائية كارثةً فوق رؤوسهم، لأنّ طبيعة الأرض الرملية سريعة الامتصاص للماء أدّت إلى أن تصل مكاره الحفر الامتصاصية إلى المياه الجوفية، والمنطقة في أساسها تعتمد على آبار المياه الارتوازية، ويُطلق عليها العامة اسم "الغاطس"، ولا يزيد عمقها عن 25 متراً. ومن ثم، تتلوّث مياه الشرب وتصبح جالبةً للأمراض.
وبدأ التحذير بشدّة هذه الأيام من انتشار فيروس شلل الأطفال، وأصدرت منظّمة الصحّة العالمية بياناً أشارت فيه إلى وجود الفيروس في منطقتَين من مناطق النزوح الأكثر كثافة سكّانية، وهما مواصي خانيونس ودير البلح، مُشيرةً إلى أنّه قُضِي على فيروس شلل الأطفال البرّي في غزّة منذ أكثر من ربع قرن، وذلك مع وصول نسبة تطعيم أطفال غزّة ضدّه إلى نسبة 95% في العام 2022، ولكنّ المخاوف تزداد بشدّة بتفشّي هذا المرض الخطير، بسبب عدم إمكانية توفير مصادر نقيّة لماء الشرب للنازحين، والتكدّس السكّاني في منطقة ضيّقة تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة الإنسانية، مثل النظافة الشخصية والمكانية، والماء النظيف، والخصوصية، والطعام الصحي الخالي من المواد الحافظة. لكن للأسف، غالبية النازحين يعتاشون على المعلّبات التي تصل في شكل مساعدات، وغالباً ما تكون سيّئة التخزين وقاربت صلاحيتها على الانتهاء، ممّا يُهدِّد صحّتهم ويُضعف مناعتهم.
الكارثة التي بدأت تمتدّ وتنتشر بعد ثلاثة أشهر من اجتياح رفح، وتكدّس سكّانها في منطقة ضيقة هي المواصي، إضافة إلى المنطقة الوسطى من القطاع، تذكّرني كما أسلفت بقصة الفيلم القديم، فهناك أصوات نسوية كثيرة تخرج من غزّة تتحدّث عن عدم توفّر مواد التنظيف الصحّية اللازمة للاستحمام وغسل الشعر والملابس والأواني، واستخدام موادّ سيّئة التركيب، وغالباً ما تُصنَّع بطرق بدائية ومُفتقرةٍ إلى الشروط الصحّية ممّا يُؤدِّي إلى تساقط الشعر وجفاف الجلد وظهور الأمراض الجلدية المختلفة بين النساء والأطفال، ولكنّ النساء اللواتي قصصنَ شعورهن لعدم توفّر مواد التنظيف وشح الماء، والمكابدة للحصول عليه، لم يُشرن إلى أنّ هذا الماء أساساً قد أصبح ملوّثاً بأخطر الأمراض مع رحلة الحصول عليه التي تشبه رحلة حصول الطفلة على الدواء المسموم لأبيها المريض في الفيلم القديم الذي لا ننسى أحداثه المثيرة أبداً، حتّى تنفّسنا الصعداء بنجاة الأب في آخر مشاهد الفيلم.