الدول الجاحدة والدول القائدة
ذهب الغجريُّ إلى الكنيسة ليعترف، لكن الخوري سأله: هل تعرف وصايا النّاموس الإلهي؟ فأجاب الغجري: كنت أنوي تعلُّمها، لكنني سمعتُ إشاعة أنهم ينوون إلغاءها. ... يروي هذه القصة المفكر الإسباني خوسي أورتيغا، متحدّثاً عن أن أوروبا المتحضّرة "ربّ العالم" التي تعتبر قوانينها دليلهُ إلى النور. فهي صاحبةُ الأوامر الواجبة على "الأدنوَن"، وهم نحن. نحن الذين حين ينبذون الأوامر الأوروبية يعيشون في "فراغ وعطالة، وسرعان ما سيصرُخون طلبا لحكمٍ ما، أيّ حكم".
كان أورتيغا (1883-1955)، حينها يعتبر قوة أميركا وروسيا غير مؤهلتين لمنافسة الحكم الأوروبي للعالم، فهما من دونه تفقدان أيّ وزن. في وقت كانت فيه أوروبا مضطرّة للتخلّي عن مستعمراتها بالتدريج، وهو ما سمّاه عصر الانحطاط الأوروبي، فالمستعمرات كانت مجد أوروبا، واستقلالُها انحدارٌ وفقدان لقيادة العالم الواجب أن تتمسّك بها أوروبا، وإلّا سيعيش في فوضى.
اكتشاف هذه العنصرية مزعج، رغم أننا تعوّدنا على الشطحات المُخزية لبعض أهمّ الفلاسفة في التاريخ، بالنظر إلى العبقرية التي خلّدت أسماءهم، مثل أرسطو مع العبيد والنساء، ونيتشه ونظرته إلى المرأة والأجنبي وغيرهما، في نظرهم أن الإنسان الوحيد الذي تكتمل إنسانيته هو الرجل الأبيض، عند الأوروبيين، والأبيض النبيل لا الأبيض الغوغائي، عند اليونان. الباقون موجودون لخدمتهم، وعليهم الحذر منهم، فهم حتماً لا يمتلكون قدرة عقلية يُعتمد عليها.
كتابُ أورتيغا "تمرّد الجماهير"، الذي كتب فيه ذلك كله، يقدّمُ إضافات مهمة للتفكير في قضايا لم تفقد راهنيتها، بعد قرابة قرن. وعبارة "تمرّد الجماهير" ليست قدحية في عمومها، بل بالعكس تواكبُ ما يحدث حالياً من سيطرة الحشود على وسائل الاتصال، لما سمّاه أورتيغا "الجمهور الاجتماعي". لكنّه أَعماها لما وصف الحركات التحرّرية من الاستعمار بالسّوقية، واشتكى من تمرد الشّعوب الصغرى، التي تتخلى عن منظومة الشّعوب الخلّاقة. ولعجزها عن إيجاد منظومة خاصة بها، تستسلم إلى الحركات البهلوانية (يا رجل). ثم حذّر من "نوع جديد من البشر" يهيمن على العالم (اليوم/ آنذاك)، وسمّاه "الإنسان - الجمهور"، من سماتهِ إنكارُه الاعتراف بمرجعيات أعلى منه (الأوروبية طبعاً).
والآن، مرّ قرن، وأوروبا تريد تحرير الرجل الأوروبي من "الغوغاء" الذين سمحت بوجودهم على أرضها من أجل خدمة الدولة. مع الإشارة إلى أن أوروبا التي تحدّث عنها خوسي أورتيغا غاسيت هي فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، بالأساس، لا كل أوروبا.
لأورتيغا مقولاتٌ مهمة، وإننا ممن لا يزالون يستدلّون بها، وإلا لما تعثّرتُ بما أشرتُ إليه في كتابه "تمرّد الجماهير". لكن المفكر "العرندس" لم يرفّ له جفن وهو يكتب: "مضحكٌ حقاً أن هذهِ الجمهورية أو تلك تقفُ، من رُكنها الضائع، على رؤوس أصابع قدميها، وتوبّخ أوروبا". يعني أقزاماً وقليلي عقل وجاحدين؟ يا لقلّة أصلنا وفصلنا. لكنه يُضمِّن على الأقل البلشفية والفاشية والنازية، ضمن جمهوريات الجماهير العمياء الجاهلة، المعتمدة على خطاب شعبوي.
لم يأتِ رأي أورتيغا من فراغ، بل هو شُعورٌ عميقٌ عبّر عنه هو بتعالٍ أو بسذاجة، ولنا أن نختار، على غرار غيره من فلاسفة الغرب بشكل أو بآخر. وحتى التنظير الفلسفي اللاحق اقتصر على دراسة ما أنتجوه هم، على مر العصور، أما نحن فلا فلسفة ولا سياسة لنا، طالما أننا رعاع، نصلح "مادة للحُكم" لا مَصدَراً له. لكن لا أحد يحلّل سقطاتهم، بل يُكتفى بما قدّموه من نظريات.
المفارقة أنه أشار إلى أن الحكم المسبق، أنّنا نتفاهم بالكلام، ينتهي بألّا نفهم بعضنا أكثر مما لو كنا خُرساً. لكنه ينصف نفسه بأنّه لا يتوجّه إلى الإنسانية، إنّما فقط إلى أوروبا، على عكس "مفكّرين تائهين وجاهلين بحدود قولهم"، والمقصود بهم مفكري منتصف القرن 18، ومن بينهم فولتير وروسّو ومونتسكيو الذين ألهموا ثورة 1789 المؤدّية إلى إعلان حقوق المواطن، الذي كان من أوائل ما جرى إقراره من شرعة لحقوق الإنسان في العالم. وهي الثورة التي هاجمها أورتيغا، رغم أنه لم يورد أسماء أولئك المفكرين. هؤلاء لم يأخذ معظمهم البشرية خارج أوروبا، بالحسبان، لكن، على الأقل، لم ينلنا منهم هذا التقريع كلّه.