السودان: أزمات تعيد نفسها
للسودان تاريخ طويل من أزمات التمرّد والانشقاق وصولاً إلى الانفصال. لذلك يصعب تجاوز أي مؤشّر يفيد ببلوغ أي من أزماته طريقاً مسدوداً. وما جرى في شرق السودان يوم الأربعاء بمثابة جرس إنذار يجب التوقف عنده طويلاً. ما أعلنته الأمانة السياسية لمجلس نظارات البجا في شرق السودان (أحد جناحين للمجلس حالياً) من تكوين الهيئة السيادية لتقرير مصير البجا، وعدم الاعتراف بحكومة الخرطوم، وبأي سلطة أو مؤسسة أو إدارة مركزية، فضلاً عن الإعلان أن "مجلس البجا هو السلطة السيادية المعترف بها لدى شعب الإقليم"، وأن "الهيئة العليا للمجلس هي البرلمان التشريعي العرفي للإقليم"، وأن "اللجنة السيادية لتقرير المصير بلجانها المتخصصة هي الحكومة الوزارية التنفيذية المؤقتة للإقليم"، تطوّر لا يمكن تجاوزه، لأن أي تصعيد بعده سيكون سقفه أعلى وبأدوات مختلفة على الأرجح.
عند ذكر تقرير المصير، يفترض أن يثير ذلك حساسية مضاعفة في السودان. يدرك عسكر السودان وساسته حجم تداعيات الإقصاء والتهميش وويلاته التي يمكن أن توصل إلى الانفصال، كما جرى مع جنوب السودان في 2011، أو التمرّد سنوات طويلة كما حدث في إقليم دارفور مع كل ما رافقه من مجازر.
ويفترض أنهم يدركون أن الوضع في الشرق قد يتفاقم، حتى وإن كان هناك من يخفّف من أهمية ما أعلنته الأمانة السياسية لمجلس نظارات البجا على قاعدة أنه صدر في ظل انشقاقات مجلس نظارات البجا ووجود فصيلين اليوم فيه، ومن يذهب إلى وضع التطورات في خانة تصعيد الضغط السياسي مع اقتراب تسوية العسكر والقوى السياسية.
حتى اليوم، لا يوجد أي تمرّد عسكري، لكن هناك أيضاً تصريحات لمسؤولين في المجلس تتحدث عن احتمال "كفاح مسلح" في الفترة المقبلة. حالياً، المطالب سياسية واجتماعية واقتصادية وتنموية بالدرجة الأولى. لكن تحوّلها إلى أزمة كبرى أخرى أكثر تعقيداً يبقى قائماً في مثل الظروف الموجودة اليوم، خصوصاً أنها أتت بعد سلسلة من المؤشرات لم يكن من المفترض تجاهلها أو التعاطي معها بخفّة، بما في ذلك أزمة والي كسلا صالح عامر الذي تم إعفاؤه سريعاً من منصبه بسبب الاعتراضات عليه، والاشتباكات القبلية التي تتكرّر كل فترة، والإغلاقات وما أسفر عنها من تعطيل للحركة الاقتصادية والتجارية.
كلما تمّت المسارعة إلى التوصل إلى حلول كلما ساهم ذلك في نزع فتيل الانفجار عن واحد من أهم أقاليم السودان بحكم موقعه الاقتصادي والجغرافي. تبدأ النقطة الأولى من إعادة صياغة علاقة الأطراف بالمركز، خصوصاً عندما تحضر الثروة عاملا مساهما في تغذية الأزمات وسط تفاقم شعور غياب العدالة في كيفية إدارة الموارد وتوظيفها. ويضاف إلى ذلك التهميش السياسي والاجتماعي، والذي فشلت السنوات التي تلت توقيع اتفاقية سلام شرق السودان في أسمرة في العام 2006 في معالجته قبل أن تضاعف اتفاقية جوبا للسلام المأزق، وهي التي تم تجاهل جميع الملاحظات التي سجلت عليها، بما في ذلك ما يتعلق بمسار الشرق.
لكن ذلك كله من الصعب أن يحدُث في ظل حكم عسكري يقوده انقلابيون كما هو الوضع اليوم. أضاع العسكر على السودانيين منذ 2021 فرصة مرحلة الانتقال الديمقراطي، مع ما كان يمكن أن تحقّقه من استقرار سياسي يمهد لمعالجة جذور أزماتٍ عديدة. وعوضاً عن ذلك، فرض العسكر وضعاً تعيد فيه الأزمات إنتاج نفسها في ظروفٍ أكثر تعقيداً.