السودان: مفاوضات الحدّ الأدنى
يعود طرفا الحرب في السودان إلى التفاوض، بعد تعليق للمحادثات امتد نحو ثلاثة أشهر كانت الكلمة فيها للميدان حصراً. لكن هذه العودة لا يجب الرهان على أنها ستقود إلى تحقيق اختراقٍ يمكن أن يطوي صفحة الحرب عبر حل سياسي، إذ لم يتبدّل الكثير عسكرياً أو سياسياً. وعوضاً عن إضاعة الوقت والجهد في أهدافٍ غير قابلةٍ للتحقّق في هذه المرحلة، يبدو أكثر إلحاحاً التركيز على اختراقات واقعية، مثل هدنة مؤقتة أو تثبيت آليات تسمح بتسهيل العمل الإنساني، وتطبيق ما كان قد اتفق عليه بما يعرف بـ"إعلان جدّة" الخاص بحماية المدنيين، ولم يجد طريقه إلى التنفيذ جرّاء عقبات عدّة، تقاسم الجيش وقوات الدعم السريع المسؤولية عنها.
وإذا كانت الأزمة الإنسانية، فعلياً، في ذيل قائمة اهتمامات الجيش و"الدعم السريع"، إلا أنها تفرض نفسها كارثة لا يمكن تجاوزها، لا من طرفي الحرب، ولا من العالم، بعد وصف الأمم المتحدة لها، بأنها أحد "أسوأ الكوابيس الإنسانية في التاريخ المعاصر". وليس اختيار هذا التوصيف عبثياً، فالحديث اليوم عن تدمير معظم البنية التحتية في البلاد وخروج 70% من المستشفيات في المناطق التي أقحمت في الحرب من الخدمة، إلى جانب انتشار أمراض مثل الكوليرا والحصبة والملاريا بين الأطفال. يُضاف إلى ذلك أن بقاء أكثر من نصف السكان على قيد الحياة رهنٌ بتقديم المساعدات لهم بعدما أجبرت الحرب 5.8 ملايين شخص (بينهم 2.5 مليون طفل) على النزوح أو التنقل من مكان إلى آخر، هرباً من المعارك، ليصل عدد النازحين في السودان بسبب أزماته الممتدّة منذ سنوات إلى 7.1 ملايين، ويسجّلون بذلك أكبر عدد من النازحين داخلياً في العالم. ورغم هذا القدر الهائل من الاحتياجات الإنسانية، إلا أن الاستجابة على المستوى الدولي تبدو أقلّ من المطلوب، إذ لم يتجاوز تمويل خطة الاستجابة الأممية الـ31% حتى يونيو/ حزيران الماضي.
وكلما طال أمد الحرب، بلغت الكارثة مستوياتٍ جديدة. وبقدر ما يشكّل وقفها حاجة ملحّة، تصبّ المؤشّرات الحالية جميعها في خانة استمرارها. ولا تشي البيانات الصادرة عن كل من الجيش و"الدعم السريع" بأن هناك نقاط التقاء بين الطرفين، رغم الإعلان المتكرّر للرغبة في إنهاء الحرب. ولا تزال رؤى قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، وقائد "الدعم السريع"، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، متباعدة. يريد كل منهما الاستمرار بخوض المعارك، متجاهلين ما أثبتته أكثر من ستة أشهر من الاشتباكات من صعوبة تحقيق أي طرفٍ انتصاراً في الميدان، رغم جميع المجازر التي ارتُكبت وعمليات التهجير، ولا سيما في دارفور الذي شهد واحداً من أسوأ فصول الحرب دمويةً مع اتهامات بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في الإقليم.
وإذا كان ميزان السيطرة يميل لـ"الدعم السريع" في العاصمة ومناطق رئيسيّة أخرى، إلا أن الجيش الذي تكبّد هزائم عدّة لا يزال يسيطر في مدنٍ أخرى مهمة. وإنْ كانت دول محدّدة في الإقليم، تدعم البرهان أو حميدتي سياسياً وعسكرياً بدرجاتٍ متفاوتةٍ لحسابات عدّة، إلا أن أياً منها لا يبدو مستعدّاً لتمويل الحرب كاملة، والغرق في مستنقعٍ قد يدوم طويلاً. ويضع هذا الأمر طرفي الحرب أمام معضلاتٍ كبيرة، في غياب الإيرادات الكافية لتغطية نفقات الحرب ورواتب المقاتلين. وحتى التقارب أخيراً بين البرهان وطهران لن يكون كافياً لقلب المعادلات، لكنه كافٍ، على ما يبدو، لإثارة قلق المسؤولين الغربيين، وهو أقلّه ما أشار إليه موقع بلومبيرغ، خصوصاً لجهة الخشية الغربية من إمداد إيران القوات المسلحة السودانية بأسلحة، بما في ذلك المسيّرات التي باتت تستخدم في أكثر من بلد، والاستمرار في حرب استنزافٍ طويلة.