الشروقي الزين!
تزخر المدوّنة التاريخية الاجتماعية العراقية بأوصاف عديدة عنصرية للمجموعات السكانية فيما بينها، ومنها الأوصاف التي يطلقها سكّان المدن تجاه أهل الريف أو البادية أو بالعكس، وتحتفظ بغداد بالحصّة الأكبر من الأوصاف السلبية والصور النمطية العنصرية تجاه أبناء المدن الأخرى، شمالاً أو جنوباً، شرقاً وغرباً. لعل من أشهرها المحمول السلبي في تسمية "الشروقي"، ويقصد به ذلك القادم من شرق دجلة، ويقال إن أصل التسمية كانت من سكّان مدن الفرات الأوسط تجاه الجنوبيين، وبالذات القادمين من ريف ميسان والناصرية، فالشروقي، في وصف الفراتيين أو البغداديين، هو ذلك الريفي العشائري المتخلّف الجاهل بوسائل الحضارة والتمدّن.
ظلت دلالة الشروقي تتسّع أو تتقلّص حسب السياق التاريخي لاستخدام هذه اللفظة، ثم صارت أحياناً تشمل كلّ سكّان الجنوب قاطبة، وتحيل إلى نمط ثقافي ولغوي وديني "طائفي" محدّد أكثر من إشارتها إلى نوع من التباين الطبقي الاجتماعي، كما كانت في البداية.
صارت لفظة "الشروقي" في عقد التسعينيات وصفاً تحقيرياً لذلك "الشيعي" القادم من الجنوب، وهي، بهذا المعنى، معبّأة بالتصورات العنصرية الإقصائية المتعالية. ولكن، كما يحدُث غالباً مع ابتداع الأوصاف في المجتمعات التي تخوض صراعاتٍ بينية، سرعان ما ينتقل الوصف التحقيري إلى نوعٍ من التبنّي، بعد إعادة تعبئة المصطلح بدلالاتٍ جديدة إيجابية. لذلك وجدنا أن كثيرين من ذوي الأصول الجنوبية لا يمانعون من وصف أنفسهم بالشروقيين، بل يؤلّف بعضُهم القصائد في مدح "شروقيته".
وفي الأنماط الثلاثة للاستجابة (التبنّي وإعادة الإنتاج، أو التحسّس، أو اللا مبالاة) يجثم تاريخ ثقافي/ اجتماعي واسع وكبير في العراق، ليس مع الشروقي فحسب، وإنما أيضاً من الجنوبي تجاه سكّان بغداد، ومن البغدادي تجاه أبناء المنطقة الغربية، وضد الكرد والمسيحيين وكل المجموعات السكّانية. وإذا توسّعنا في فحص أشكال العنصرية، نجد مواقف وصوراً نمطية تجاه المرأة والطفل وذوي البشرة السوداء، ومرضى متلازمة داون، والقائمة تطول.
لكن أغرب حالة تبنٍّ وإعادة إنتاج لمعنى الشروقي أن نقول إنه ذلك الجنوبي الموالي للولي الفقيه في إيران. ذلك للأسف ما تحاول أن تصدّره التدوينات التابعة لفصائل شيعية عراقية موالية للنظام الإيراني، فهي مثلاً تصف، من باب المدح، رئيس الوزراء الحالي، القادم من ميسان جنوبي العراق، بأنه "شروقي زين"، لا لشيءٍ إلا لأنها تراه يتطابق مع توجّهاتها أو يُسايرها، بل إنه لم يحصل على منصبه من دون دعمها الصريح.
الشروقي، على وفق قراءتي الخاصّة، يبقى وصفاً تحقيرياً من ضمن الأوصاف السلبية التي أطلقتها المركزية البغدادية تجاه أبناء المحافظات من الريفيين وسكّان البادية، ولا أريد إعادة إنتاجه إيجابياً ولا هم يحزنون.
أما ساكن الجنوب، من ريف العمارة والناصرية وغيرهما، الذي يتقبّل أن يوصَف بالشروقي أو لا يتقبّل، فهو ليس ملاكاً، وإنما بشرٌ تتجاور فيه الصفات الإيجابية والسلبية، حالُه حالُ أي مجموعة سكانية أخرى في العراق. ومن بين الصفات الإيجابية والسلبية التي لديه، تاريخياً، أنه لا يمكن أن يكون إيرانياً أو موالياً لإيران.
من الصفات السلبية لهذا "الشروقي" أنه ينظر بعنصرية تجاه العجم، ويُطلق عليهم أوصافاً سلبية، حتى لو كانوا أكثر تحضّراً منه. وهو يعتز بأصوله العربية وتقاليده العشائرية. يحترم "السادة"، وهم رجال الدين من الأصول الهاشمية، ولكنه ليس روحانياً أو أصولياً، وإنما طقسي وشكلاني، وهو عشائري، بكل ما تحمله العشائرية من صفات سلبية وإيجابية.
الثقافة العشائرية العربية، إن جاز التعبير، أعادت إنتاج التدين والتشيّع، عبر قرون طويلة، لتنتج لنا مظاهر خاصة في المجتمع الشيعي الجنوبي العراقي، مميّزة جداً، مثل المضائف المجانية لإطعام الزائرين إلى مقام الحسين. أو اللحنية الحسينية الخاصة في قراءة المقاتل، التي لا يستطيع أي شيعي في المنطقة أن يتملّص منها، فهي عراقية جنوبية خالصة.
مجتمع الجنوب، بكلّ تأكيد، بالغ التنوّع، وفيه من كلّ التيارات الفكرية والسياسية و"العقائدية"، وفيه من يوالي إيران طبعاً، ولكن هذا بالمطلق لا يعني الخضوع لإعادة إنتاج لمعان ودلالات تزيّف الحقائق الاجتماعية التاريخية، فتقفز بـ"الشروقي" من الدلالة السلبية الأصلية الإقصائية العنصرية، إلى دلالة سلبية جديدة تستلحق "العراقي الجنوبي العربي" بإيران زيفاً وبهتاناً.