الصراع على الرأسمال التشريني
في مثل هذه الأيام، وفي خضم أحداث انتفاضة تشرين 2019، كتبت على صفحتي في فيسبوك: "واحد من المشاهد بالغة التأثير كيف أن صور شهداء الحشد على الجسور والطرقات في بغداد شحبت وتآكلت بعد عام من التحرير، ثم استبدلت عشية انتخابات 2018 بصور مرشّحي الكتل، ومنهم كتل سياسية أقامت نفسها على رمزية تمثيل الحشد ودماء شهدائه. ومن المؤسف أن دورة الاستهلاك والاستنفاد للرأسمال الرمزي ستشمل لاحقاً أولاد وشهداء انتفاضة تشرين". ... وهذا ما حدث، فخلال الأعوام الأربعة الماضية على تظاهرات تشرين، استثمر كثيرون في دماء تشرين، حتى أولئك الذين كانوا خلف بنادق الدخانيات التي قتلت شباب تشرين، صاروا أيضاً يستثمرون بها، بعد إعادة تأويلها باعتبارها ليست تظاهراتٍ وطنية شاملة، وإنما مجموعة تيّارات، فيتبنّى السياسي الذي قتل تشرين أصلاً تياراً منها وينبذ آخرين.
خلال هذا الزمن، قفزت بعض الأصوات العالية لتشرين، والتي كانت ممثلة لها في وسائل الإعلام ومواقع التواصل وتتحدّث باسمها، قفزة طويلة إلى الضفّة المقابلة التي تضم قتلة تشرين.
خرجت، في الذكرى الرابعة، تظاهرات خجولة، لم تحظ بتغطيات إعلامية قوية، وربما فكّر من شارك فيها بواجب الوفاء للدماء التي سقطت، من إخوة وأصدقاء ورفاق درب، من دون أن تتجاوز هذه التظاهرات حدود إحياء الذكرى، فلا مقوّمات في الوقت الحالي لاستعادة تشرين ولا ربع تشرين!
تعلمنا دروس التاريخ وعبره بأن الحدث نفسه ليس مهمّا، وإنما "تأويله" وتفسيره، فهو يحدُث في لحظة ما من الزمن وينقضي، ثم تبقى قصّته وحكايته في أيدي من عاصر الحدث وعايشه، يعيدون تشكيلها على أهوائهم وتصوّراتهم المسبقة وأغراضهم من سرد الحدث نفسه.
حاولت قوى السلطة مواجهة تشرين وتفكيكها، وصمدت التظاهرات أشهراً طويلة، بما جعلها حقيقة لا يمكن تسخيفها أو التقليل من شأنها، وهذا ما استسلمت له قوى السلطة في نهاية المطاف، ولكنها بذلت، خلال أربع سنوات، جهداً في إعادة تأويل حدث تشرين نفسه، لإفراغه من محتواه الوطني، فصارت الرواية الرسمية لهذه التيارات السياسية الماسكة للسلطة أنها مجرّد تظاهرات مطلبية، سببها البحث عن عمل، وهي، من جانب آخر، تظاهرات "شيعية"، بمعنى أنها خرجت من مناطق ذات الغالبية السكانية الشيعية، واخترقها "البعثيون" أو عملاء الدول الخارجية، رافعين شعارات وطنية. والمقصود بهذا أن المتظاهرين في الناصرية والعمارة والبصرة والقادمين من مدينة الصدر ببغداد كانوا داخل إطار الرؤية الشيعية، وليس لديهم شعور وطني عابر للطائفية والقومية، وتظاهروا لأنهم يبحثون عن عمل. وهذه الرؤية التي رسختها تيارات السلطة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تجعلها، في النهاية، تستحوذ على معنى تشرين التي خرجت أصلاً ضدها. وتعكس هذه الرؤية تصوّراً أعرج عن "الوطنية"، فهي تفترض التوازن العددي في أصول المتظاهرين الاجتماعية، الطائفية والدينية والعرقية، ولا تهتم لما يفكّر به المتظاهرون أصلاً. بينما الوطنية التي كانت تطفح على ألسنة المتظاهرين لا شأن لها بالأعداد أو الأصول، وكم عدد الأفراد من كلّ طائفة وعرق في هذه التظاهرة أو تلك. إنها رؤية مضادّة لرؤية النظام السياسي بشكل كامل.
كانت المطالب الحياتية والبحث عن فرص عمل من القضايا الأساسية في تظاهرات تشرين، ولكنها لا تختزلها، فأزمة البطالة مجرّد مظهر لفساد النظام السياسي وخرابه. وأدرك الشباب المتظاهر هذه الحقيقة، ونسبة كبيرة من المتظاهرين لم يكونوا عاطلين أصلاً، وإنما باحثين عن قضايا أوسع وأشمل، يمكن اختصارها بأنها مطالب وطنية تسعى إلى إصلاح النظام السياسي، لا مجرد الحصول على عمل.
كما أن الساحات شهدت سقوط عشرات من الضحايا والجرحى من مختلف القوميات والطوائف، كما أن المناطق السنيّة غرب بغداد وشمالها شهدت حملات اعتقال واسعة لشبابٍ شاركوا منشوراتٍ تدعو إلى دعم تشرين، أو لأنهم خرجوا في تظاهرة صغيرة دعماً لعوائل ضحايا مجرزة الناصرية في وقتها، كما حصل في الموصل التي اعتقل شبابها لاحقاً، فضلاً عن وجود كثيرين من أبناء هذه المحافظات (السنيّة) في قلب تظاهرات بغداد، والأمر نفسه عن الكرد والتركمان وغيرهم. ومن المعيب أن نفتّش في النسيج الاجتماعي للتظاهرات، بينما لم تكن لدى الأفراد المشاركين فيها مطالب طائفية أو قومية، وإنما مطالب وطنية، والمنطق يفرض أن التوجّهات السياسية يحدّدها الخطاب، لا الأصول العرقية والطائفية والطبقية.
صارت تشرين اليوم حدثاً في الذاكرة. ولهذا السبب، المعركة الآن على الحكاية والتأويل، تأويل حكاية تشرين، بينما من واجهها بالقمع والرصاص الحيّ، أو من شارك بها، تفرّقوا إلى أطراف عديدة، لدى كل طرف مشروعه الخاص. وفي لحظة ما من المستقبل، قد ينتصر تيار سياسي ما على خصومه بالاستناد إلى الرأسمال الرمزي التشريني، حتى من دون أن يكون تشرينياً أصلاً.