العبء الأسود
لا أحد في ميسوره أن يتذوّق عصارة المرارة التي صدر عنها تصريح رئيس ملاوي، لازاروس شاكويرا، الذي اتهم الغرب، قبل أيام، بالتمييز على أساس العرق، إلّا العبيد الأفارقة الذين خُطفوا طوال 400 عام من قارّتهم، واقتيدوا إلى مستعمرات أميركا الشمالية والجنوبية، ودول في أوروبا، وحشروا على متن سفن برتغالية وبريطانية وفرنسية وإسبانية وهولندية وأميركية؛ لاستعبادهم وتشغيلهم في مزارع البن، والقطن، وقصب السكر، والأرز، وأعمال البناء الشاقة.
مناسبة التصريح قراراتٌ متتابعةٌ صدرت عن تلك البلدان نفسها التي اقترفت جرائم الاستعباد، بحظر دخول أفارقة جنوب أفريقيا ودولاً أخرى من القارّة إلى أراضيها، خشية انتقال متحور "أوميكرون" إلى أراضيها "الناعمة، الطاهرة، المعقّمة، النقيّة".
في التصريح اتهام "صريح" وفي التلميح كان الرئيس شاكويرا يستحضر تاريخاً مثقلاً بالعار، كأنه يودّ القول إنّ هذا التاريخ لم ينقطع بعد، فما زال "الرجل الأبيض" فوقيّاً، مستعلياً، سيّداً، يفتح منافذ العالم ويغلقها متى شاء، ويصنّف البشر على أساس عرقيّ، بدليل أنّه "ما كان ليمارس الحظر ذاته لو كان منشأ المتحوّر دولة أوروبية، لا أفريقية"، وفق الرئيس نفسه.
ولربما ذهب الشّطط بالرئيس بعيداً، عندما عبّر عن خيبته بـ"المكافأة" التي جنتها دولة جنوب أفريقيا بتحقيق قصب السبق في اكتشاف المتحوّر الجديد، فبدلاً من الإشادة بعلمائها وباحثيها، كوفئت بوضعها على رأس الدول المحظورة، وكأنّه يريد القول، أيضاً، إنّ التمييز لا يقف عند حدود العرْق، بل يطاول النخب أيضاً، فالعالِم الأسود لا يمكنه أن يسود، علميّاً، على أقرانه البيض الذين يحصدون جوائز نوبل لقاء اكتشافات أقلّ من ذلك بكثير.
خلاصة ما لم يقله الرئيس شاكويرا، صراحة، أنّ الأفارقة ما زالوا يدفعون ثمن لونهم، جلباً وطرداً. في الماضي، كان لونهم مطلوباً للرقّ والاستملاك لتشغيل الماكنة الزراعية الأوروبية الضخمة، وللثورة الصناعية الأولى التي تلتها، وللبناء والتشييد، حتّى إذا ما تحقّق ذلك كله، أصبح اللون عبئاً. ولولا بعض خجل لاستنّت دول الاستعباد قوانين بإعادة السلالة الأفريقية إلى مواطنها الأصلية، بعد زوال أسباب جلبها. لكن عوضاً عن ذلك تُشدّد القيود على النّاجين من الرقّ لأسبابٍ تتعلّق بالفروق الزمنية لا أكثر، فهم محظوظون لأنّهم ولدوا في أزمنةٍ متقدّمةٍ لم يعد فيها الاسترقاق مطلوباً بعدما حلّت التكنولوجيات الجديدة هذه المعضلة، وأصبحت السيادة للآلة على حساب الأيدي العاملة.
غير أنّ القارة نفسها لم تزل مغرية للعاب الغربي، بثرواتها الطبيعية المهولة التي تحتاج تنقيباً واستخراجاً وتهريباً. وفي مثل هذه الحالات، تحلّ المعضلة الغربية بأساليب أخرى، يكون عمادها استعباد الأفارقة في مواطنهم هذه المرّة، من دون تكلّف عناء جلبهم، وهو استعباد من طراز جديد، وغير مباشر، عماده الاستعانة بالعملاء من مستبدّين ومهربين ومليشيات تشعل الحروب الأهلية متى طلب إليها ذلك من "السيّد الأبيض".
ذلك كله معلوم. لكن ماذا عن "عبء الرجل الأسود" هذه المرّة؟ ذلك ما لم يصرّح به الرئيس شاكويرا بعد، غير أنّي أرجّح أنّ أحداً من الأفارقة سيفعل قريباً، في هذه القارّة المتفجّرة بالحروب والصراعات والثروات، وبالظلم أيضاً.
هو عبء نقيضٌ تماماً لما كان يقال عن "عبء الرجل الأبيض" قبل قرنين، في معرض تسويغ الاستعمار الغربي، فقد اعتبر هذا الاستعمار مهمةً "إنسانية" للنهوض بالبشرية والارتقاء بها، وإنْ بوسائل وحشيّة. أما الرجل الأسود في جنوب أفريقيا وغيرها فيحمل رسالة النهوض أيضاً لكن بوسائل نقيّة مدافعة عن البشرية وسلامتها، بدليل أنّ علماء تلك الدولة عندما وقَعوا على اكتشاف المتحوّر لم يبخلوا بالاكتشاف على أقرانهم في دول "الرجل الأبيض" بل قرعوا ناقوس الخطر، على الرغم من تنبّؤهم بالتداعيات التي ستتمخّض عن هذا الاكتشاف، والنكران والجحود اللذيْن ستقابل بهما دولتهم وأقرانها من الدول المجاورة، وربما القارّة السوداء برمّتها في ما بعد.
أتضامن مع شاكويرا في مرارته وخيبته، لكنّي موقنٌ أنّه بمثل تلك الدوافع النقيّة، فقط، تنهض البشرية.