العدالة المتأخرة لدارفور
نادرة هي المناطق السودانية التي نجت من بطش نظام عمر البشير. كان حكمه، الممتد منذ انقلاب 1989 حتى سقوطه في 2019، وصفة للخراب. همّه الأول والأخير كان البقاء في الحكم، تطلب ذلك بطشا سياسيا أو عسكريا. وإذا كان انفصال جنوب السودان في عام 2011 أحد أبرز تجليات سوء الحكم والإدارة، بعدما فشل في الحفاظ على وحدة البلد، فإن ما جرى في إقليم دارفور كان الوجه الآخر لمساوئ هذا النظام. امتزج الفشل السياسي بالعسكري، فولّد تمرّداً لم يجد البشير من وسيلةٍ لمحاولة وأده إلا بالمجازر. ما تسببت به هذه المجازر من ويلات لا تزال ماثلة. تقديرات النزاع تتحدث عن قتل وتشريد ما لا يقل عن أربعة ملايين سوداني. إعادة الاستقرار والسلام إلى الإقليم المتخم بالأزمات والصراعات القبلية والنزوح، ليس بالمهمة اليسيرة. لكن على الأقل يمكن الحديث الآن عن بدء تطبيع الأوضاع تدريجياً.
ولم يكن تنصيب مني أركو مناوي، وهو رئيس حركة تحرير السودان، التي شاركت في التمرّد، الثلاثاء الماضي، حاكماً للإقليم، سوى جزء من هذا المسار المعقد، بعدما تمكّنت الحكومة السودانية من التوصل إلى اتفاق سلام مع أبرز حركات التمرّد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. بروز بعض الاعتراضات على اختياره لا يسهّل مهمته لحلحلة الأزمات. أما دعوته إلى "التحاور والتصالح وتجاوز مرارات الماضي" بـ"التسامح والعفو عما سلف" بوصف ذلك "الطريق الوحيد لأهل دارفور لبناء السلام الاجتماعي وتحقيق المصالحات" فليست كافية. الاختبار الحقيقي سيكون في استعادة ثقة أبناء الإقليم، ولن يتحقق هذا إلا بضبط الأمن ووقف الجرائم وبدء عودة النازحين وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب الممتدة منذ نحو عقدين.
من عوامل التحفيز ترافق هذه التطورات في الإقليم مع موافقة مجلس الوزراء على تسليم المطلوبين على خلفية جرائم دارفور للمحكمة الجنائية الدولية، بعدما أجاز مشروع قانون انضمام السودان لنظام روما الأساسي للمحكمة. ولكن القرار النهائي يبقى رهن اجتماع مشترك بين مجلسي السيادة والوزراء للموافقة على التسليم والمصادقة على القانون، بحسب ما ذكرت وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي. وإذا ما تحقق ذلك، فإن البشير إلى جانب كل من وزير الدفاع السابق عبد الرحيم محمد حسين ووالي شمال كردفان السابق، أحمد محمد هارون، سيلتحقون بمحمد علي عبد الرحمن (علي كوشيب) الذي بات في قبضة المحكمة منذ يونيو/ حزيران 2020.
بالعودة إلى سجلات المحكمة الجنائية، يتضمن أمر القبض على البشير عشر تهم، استناداً إلى مسؤوليته الجنائية الفردية باعتباره مرتكباً غير مباشر أو شريكاً غير مباشر في خمس تهم متعلقة بجرائم ضد الإنسانية، القتل والإبادة والنقل القسري والتعذيب والاغتصاب، إلى جانب تهمتين متعلقتين بجرائم حرب جرّاء تعمّد توجيه هجمات ضد سكان مدنيين، بصفتهم هذه أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية، والنهب. كما يواجه ثلاث تهم تتعلق بجرائم الإبادة الجماعية، وتتمثل في القتل وإلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم وإخضاع الجماعات المستهدفة عمداً لأحوال معيشية، يُقصد بها فعلياً إهلاكها.
لائحة التهم هذه التي تختصر حجم الفظائع التي واجهها سكان الإقليم طوال السنوات الماضية، ما يجعل من محاكمة البشير ومعاونيه على جرائمهم أمراً أساسياً، ليس فقط بسبب ما سيقود إليه هذا الأمر من تحقيق العدالة، لو متأخرة، لأهالي دارفور، بل نظراً إلى الوضع الحالي الانتقالي في السودان، حيث العسكر يهيمن على الجزء الأكبر من السلطة. وضمان المحاسبة يمكن أن يشكل عامل ردعٍ في بلد مثل السودان تبقى فيه جميع الاحتمالات السياسية والعسكرية حاضرة بقوة.