اللغة الأبويّة والحرب على غزّة
القطع في الرأي أبرز سمات اللغة الأبويّة التي تقبع في خلفية مشاهد الحياة السياسية العربية، فلا يقول واحدنا "أنا أظن كذا وكذا"، و"رأيي الشخصي كذا وكذا"، بل يعتبر ما يقوله صحيحاً بالمطلق؛ كأنّه مرآة الحقيقة التي تنتظرها جموع الناس من بنات أفكاره النيّرة، وعلمه الواسع، وعقله الراجح، وبصيرته الثاقبة، من دون حاجة لافتراض أنّ ما يقوله "ربما" لا يكون صحيحاً. تلك اللغة لا تتوقّف عند المحللين، بل تنسحب على رجال السياسة وحركاتها وقواها، وفي تلك المنطقة تتجلى أسوأ نتائجها.
منذ أحداث "7 أكتوبر"، بدا أنّ الأطراف الفلسطينية المتعارضة التي يفترض أنّها جميعاً تريد تحقيق الأهداف الوطنية العليا للشعب الفلسطيني استعملت أقصى درجات القطع في لغتها حول الحرب على غزّة، سواء لمصلحة تأييد المقاومة أو لومها، فكلّ طرفٍ منها يتّهم الآخر بانعدام البصيرة، وعدم إدراك المصالح العليا، فيما ينعت نفسَه بأفضل صفات سعة الأفق وحُسن التفكير، ما يعني افتراضه أنّ مخالفيه غوغائيون، مدفوعون بعواطفهم، ويتّخذون مواقفهم من دون تمعّن أو تفكير.
لذا تتكرّر كلمة "غوغائيون" من دون غيرها عند نقد وجهات النظر المخالفة في العالم العربي، ويبرّر مطلقو تهمة "الغوغائية" استعمالهم المصطلح بالدفاع عن مصالح الأوطان في مواجهة الذين لا يفهمونها، ولا يتوفّرون على مؤهلات تمكّنهم من المشاركة في تحقيقها. هنا، ينطوي المشهد على بُعد هزلي: ففي إسرائيل، حيث للتنافس البرامجي بين الفرقاء السياسيين معنى ونتيجة، لأنّه يقود إلى تشكيل الحكومات ورسم مسيرة الدولة، لا نسمع أحداً يصف الآخر بالغوغائية، بين التيارات السياسية الرئيسية، بل قال نتنياهو لخصومه الذين لا يقلّون عنه إجراماً ودموية، وهو يهمُّ يوماً بتشكيل الحكومة: "لدينا أساليب مختلفة، لكننا نريد العمل معاً لما فيه خير الدولة، ويمكننا إيجاد طريق مشتركة لإيصال إسرائيل إلى برّ الأمان والازدهار والسلام". صحيح أنّ ذلك التصريح انطوى على مناورة سياسية، لكنّه لا ينفي اضطراره للاعتراف بأنّ الخلاف لا يمنع تكامل الأدوار السياسية. وليس الغرض من إيراد هذا التباين في كيفية التعاطي بين المتخالفين في الحياة السياسية الفلسطينية ونظيرتها الإسرائيلية، مديح هذه الأخيرة، بل التذكير بأحد أسباب قدرتها على التجدّد ومواصلة التفوّق، وبأحد أسباب ما تعانيه القضية الفلسطينية من تعطّل وإعاقة، حتى في أكثر لحظات احتياج المشروع الوطني الفلسطيني لاجتماع الفرقاء وتعاونهم.
ليس ثمة ضرورة لاستعمال اللغة الأبويّة التي لا تترك للودّ والإقناع مجالاً بين أصحاب النيات الحسنة حقاً
على أن التبعات السيئة لاستعمال لغة القطع في تحليل الحرب على غزّة، سواء من المحلّلين الذين ظهروا على المنابر الإعلامية أو النشطاء الذين استعلموا منابر التواصل الاجتماعي، تجلّت أيضاً في النقاش العربي العام، وتسبّبت بشرخ عميق بين الداعمين واللائمين الذين لم يعتبروا الرأي الآخر مجرّد وجهة نظر، بل غوغائية وخيانة، تماماً كما تسبّبت عبر عقود طويلة في تعميق الشرخ بين القوى الفلسطينية، والحيلولة دون الاتفاق على برنامج عمل فلسطيني موحّد. وليس المطلوب أن يفترض الناس ببعضهم حُسن النيات باستمرار، لكن ليس ثمة ضرورة لاستعمال اللغة الأبويّة التي لا تترك للودّ والإقناع مجالاً بين أصحاب النيات الحسنة حقاً. إنّها مسألة ثقافية عربية عميقة تتجلى في اللغة، ويبدو من غير الممكن علاج مشكلة استعمال اللغة الأبويّة لإبداء الآراء، من دون علاج جذورها الثقافية.
في برنامج تلفزيوني قديم، كان المذيع يجول الشوارع ليعرض على المارّة مشكلة ما، ويطلب منهم اختيار واحد من ثلاثة حلول لها، كلّها غير منطقية. المفروض أن يرفض المرء تلك الحلول كلّها، لا أن يختار واحدها، لكنّ الذي كان يجري بدا ذا معنى حقّاً. ففي إحدى الحلقات طُلب من الناس اختيار أحد ثلاثة حلول مضحكة لمواجهة تبعات سرقة أغطية نقاط تصريف مياه الأمطار من الشوارع. أولها، وضع سور حديدي حول النقطة التي سُرق غطاؤها للحيلولة دون سقوط المارّة فيها. وثانيها، تعيين منقذ لإخراج من يسقط فيها. أمّا ثالثها، فكان وضع سيارة إسعاف عند كل نقطة لعلاج من يقع فيها. الغريب أنّ معظم المشاركين راحوا يختارون أحد تلك الحلول الثلاثة، وينخرطون في شرح ضرورة تطبيقه، بدل أن يرفضوا تلك الخيارات كلّها ويطرحوا الحلّ المنطقي الوحيد المعروف؛ وضع غطاء جديد مُحكم الإغلاق.
تسبّبت لغة القطع، عقوداً طويلة، في تعميق الشرخ بين القوى الفلسطينية
ما يمكن استخلاصُه من جدّية تعامل الناس مع تلك الخيارات، أنّهم يتصرّفون كما لو أنّهم يفهمون في كلّ شيء يُعرض عليهم رغم عدم معرفتهم السابقة به، ويمُكنْهم الحديث في أيّ موضوع، وتقديم رأي مبني على دراية وعمق، وتحليله ومقارنته بآراء الآخرين، وصولاً إلى صياغة استنتاجات قاطعة حوله. يبدو أنّ ما جرى حول الحرب على غزّة لا يختلف كثيراً عما يجري حول كلّ موضوع آخر: كلام تذروه الريح، فهؤلاء الذين يتحدّثون بلغة الحسم والقطع عن تداعيات الحرب في غزّة على العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي ومستقبل الشرق الأوسط، من دون معلومات أو بحث أو خبرات، لا يختلفون عن الذين يثرثرون حول مختلف المسائل اليومية والاجتماعية والعائلية في البيت والشارع والإنترنت.
ومن مثل تلك اللغة الأبويّة، التي تفسد النقاش والحوار وتمنع تهذيب الاختلاف، يتغذّى خطاب الحركات السياسية الفلسطينية، التي لم تتمكن حتى اليوم من صياغة مشروع وطني مُوحّد، يبدو شرطاً ضرورياً لإنجاز غايات وتطلعات الشعب الفلسطيني، على غير ما يفعل نتنياهو والمجرمون حوله.