انتخابات لبنان بعيداً عن الأوهام
تحتاج نتائج الانتخابات اللبنانية إلى قراءةٍ متشعبة المسارات، فحصرها في نقطة واحدة، من انتصر ومن هزم، مقاربة مختزلة. الاستحقاق أتى بعد أزمة اقتصادية هي الأعنف في العقود الأخيرة، وعقب انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020، وفي ظل نقمةٍ شعبيةٍ غير مسبوقة على السلطة الحاكمة، وهو ما كان يتوقع أن يترجم في الصناديق.
الأكيد أن النتائج أفرزت مزاجاً شعبياً جديداً، أتاح، للمرّة الأولى، وصول مجموعة من النواب من خارج الأحزاب التقليدية والعائلات السياسية. ولمّا كان مفهوم الانتصار والهزيمة يختلف باختلاف الأطراف ومصالحها، فإن الحقيقة الثابتة أن نتائج الانتخابات حرمت حزب الله وحلفاءه من الأغلبية البرلمانية، والمنافسة الأهم كانت هذه المرّة في معقل "الثنائي الشيعي"، وكانت النتيجة إسقاط أشخاص، من أمثال أسعد حردان ومروان خير الدين (دائرة الجنوب الثالثة) ويضاف إليهما إيلي الفرزلي (دائرة البقاع - الغربي راشيا)، والثلاثة يعدّون من أسوأ النماذج التي كان يمكن أن تصل إلى المجلس النيابي بفضل الحزب وحلفائه. كذلك أثبتت نتائج الانتخابات أن الخيار الجدّي من خارج المنظومة الحزبية التقليدية موجود وقادر على الوصول رغم الإمكانات المادية شبه المعدومة والشعارات التخوينية والطائفية وحملات التشويه والتضليل التي خيضت بمواجهة المرشحين.
ولذلك تُعلّق على هؤلاء النواب آمالٌ كبيرة، وذلك من حقّ الذين وثقوا بهم ومنحوهم أصواتهم ولم يختاروا المقاطعة أو الورقة البيضاء. ولا يُفترض أن يتأخر الوقت قبل اتضاح الصورة والفرز الفعلي للنواب. بعض منهم كان خطابه السياسي واضحاً منذ ما قبل ترشّحه، خصوصاً أنهم أعدّوا للمعركة مبكراً، وكانوا يراكمون جهودهم وصولاً إلى هذه اللحظة. وهؤلاء يمكن البناء على برامجهم ووعودهم لمراقبتهم ومحاسبتهم في مرحلة لاحقة. لكن آخرين يبدو كأنهم في منطقة رمادية، لم يكوّنوا بعد خطاباً سياسياً واضحاً، ويطرق باب السياسة بخجل. ولذلك، قبل اتخاذ "النواب التغييريين" قراراً بالتكتل في مجموعة برلمانية موحّدة، سيكون من الظلم الحكم عليهم بناء على تصوّر في الأذهان بأنهم مجموعة موحدة. وأياً يكن خيارهم، سواء بالعمل من دون تكتل أو من خلاله، فإن المهم ستكون رؤيتهم للقضايا الأساسية محور الحياة السياسية في المرحلة المقبلة. والحديث هنا يتجاوز من سيُنتخب لرئاسة مجلس النواب، ومن سيجري ترشيحه لرئاسة الوزراء، وهما السؤالان الطاغيان. المعارك المركزية ستكون في قلب المجلس النيابي، عند مناقشة القوانين الجوهرية، الكابيتال كونترول وكيف سيتم ضمان حقوق المودعين وعدم السماح لتحالف الأحزاب - المصارف بقضمها ونقل الخسائر من هذا القطاع إلى المواطنين، الموقف من حماية أصول الدولة في ظل التسريبات عن بيع الأملاك العامة أو خصخصتها بالحد الأدنى، بوصفها الحل الذي سينقذ لبنان. كيف ستترجم رؤية النواب الجدد لمشكلات الكهرباء والنفايات في قلب البرلمان، وما هي المشاريع التي ستقدّم منهم وكيف سيكون دورهم داخل اللجان النيابية، والأهم ما إذا كانوا سيُثبتون أنهم قادرون على تشكيل لوبي فاعل داخل البرلمان. وهذه النقطة تحديداً تحتاج إلى مرونة سياسية وإدارة اللعبة بما تقتضيه مصالح المواطنين.
والجزئية الأهم التي يفترض ألا تغيب عن بال "النواب التغييريين" أن تجربتهم ستكون تأسيسية، وعلى عاتقهم أربع سنوات ستكون حاسمة لجهة القدرة على مراكمة ثقة أكبر لدى المواطنين يمكن البناء عليها في معركة 2026 الانتخابية، بما يتيح إقناع الفئة الواسعة التي قاطعت الانتخابات أو تلك التي اختارت الورقة البيضاء في الانتخابات الأخيرة، بأن الخيار الأنسب هو التصويت في الاستحقاق المقبل.