انقلاب لأسباب غير تافهة
في زمن الإغلاق المفروض بفعل وباء كورونا، وطي صفحة دونالد ترامب بعد خروجه من البيت الأبيض، تراجعت الأحداث السياسية على نحو كبير، حتى أن بعضها يتكرّر منذ سنوات على نحو مملّ. وحدها ميانمار كانت قلب الحدث منذ يوم الاثنين الماضي. وهذه المرّة ليس بسبب تطوراتٍ ذات صلة بالمجازر المرتبكة بحق أقلية الروهينغا، بل جرّاء انقلاب العسكر الذين لم يغيبوا إلا في ما ندر عن واجهة السلطة طيلة العقود الماضية.
تفاصيل تنفيذ الانقلاب ليست جديدة أو مبتكرة. فُرِضت حالة الطوارئ، عُطِلت الحياة السياسية، تم اعتقال أبرز المسؤولين، حجبت مواقع التواصل الاجتماعي، منع أي مظهر اعتراضي. .. لكن أكثر ما يسترعي الانتباه طبيعة التهم الموجهة إلى السياسيين، فالرئيس المعزول، وين ميينت، متهم بانتهاك قانون حول إدارة الكوارث الطبيعية. والحديث هنا عن خرق تدابير حظر التجمعات المفروضة لمكافحة فيروس كورونا. أما زعيمة الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، أونغ سان سو تشي، الهدف الأول للانقلابيين، فجريمتها مخالفة قانون الاستيراد والتصدير لشرائها معدّات اتصالاتٍ يستخدمها حرّاسها.
للوهلة الأولى، يبدو أن هذه التهم استحضرت على عجل. لكن الجيش في ميانمار لم ينقلب لهذه الأسباب التافهة، مثلما أنه لم يستحضر هذه التهم عبثاً، فالاعتقاد السائد أن الهدف الأساسي من هذه التهم حرمان سو تشي من تولي أي مناصب رسمية مستقبلاً، في حال تمت إدانتها بهذه الجرائم الجنائية، وذلك في ما لو سارت مخططاته كما يريد. ولذلك ينصبّ كل تركيزه على منع أي مظهر اعتراضي، حتى لو كان قرعاً لأواني المطبخ أو إطلاق أبواق السيارات، أو وضع ملصق في الشارع، فأي مظهر اعتراضي، مهما كان محدوداً، بمجرّد أن يمرّ، قد يكون قابلاً للاتساع والتحول إلى عصيان مدني واسع. وخفوت أصوات الداخل سريعاً مهم بالنسبة إليهم أكثر بكثير من أي مواقف خارجية.
الجيش أصلاً لا يأبه كثيراً للمواقف الغربية، فهو متورّط في ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الروهينغا، ولم تكن للعقوبات المفروضة عليه من تأثيرات جوهرية. كما أن الانقسام الدولي حيال الانقلاب ظهر سريعاً بين من يراه "شأناً داخلياً" ومن يعتبره انقلاباً موصوفاً يجب الرد عليه، وهو ما انعكس في عجز مجلس الأمن الدولي عن تمرير بيان بشأن الانقلاب. وبطبيعة الحال، لا داعي للتساؤل عن الدولتين اللتين عطلتا البيان، إذ تقود تجارب السنين الماضية إلى الصين وروسيا.
كل ما يهم عسكر ميانمار الداخل وما يجري فيه، ورسالتهم التي لا لبس فيها، أن الجيش لا يريد أي شريك جدّي له في الحكم. صبر العسكر نفد بعد قرابة عقد فقط من قبولهم على مضض تسليم السلطة نظرياً للمدنيين، من دون أن يتخلوا عن نفوذهم الواسع، بفضل دستور فصّل على قياسهم، فمنحهم الهيمنة على أبرز الوزارات وربع مقاعد البرلمان. حتى أن أي تعديل للدستور يعد شبه مستحيل، لأنه يحتاج 75% من الأصوات البرلمانية، الأمر الذي يصعب تحقيقه نظرياً، إلا لو استشعر من هم في دائرة المؤسسة العسكرية أنها لم تعد الورقة الرابحة، وبدأوا يفكّرون بالابتعاد عنها. ويبدو أن ذلك أكثر ما أقلق الجيش بعد نتائج الانتخابات التي فاز فيها حزب الرابطة بـ80% من الأصوات، ورفض العسكر القبول بها، مستحضرين كل اتهامات التزوير بحقها.
ولذلك لا يعود مستغرباً أن الانقلاب استبق بساعات انعقاد أول جلسة للبرلمان الجديد، ليقول العسكر إن لا صوت مسموح أن يعلو على صوتهم، وإن أي عملية سياسية وانتخابية إما أن تكون خاضعة لقواعد لعبتهم ومحكومة منهم، وإلا لن تستمر.