بروفا الحرب الأهلية في السودان
لا تخلو تصريحات المسؤولين الأمميين من تحذيراتٍ متكرّرةٍ بشأن اندلاع حرب أهلية في السودان، على غرار جلسة مجلس الأمن قبل يومين. وإذا كانت الأيام الأولى من الحرب حملت مؤشّرات إلى توسّع النزاع واتخاذه أبعاداً أخطر نتيجة تداخل عوامل عدة، فإن ما جرى في إقليم دارفور شكل عملياً البروفا الأولى لما ستكون عليه الحرب خارج الخرطوم.
منذ الأيام الأولى للإقليم، كانت الجرائم المرتكبة فيه تتخطّى دائرة الاشتباك بين قوتين عسكريتين، أي الجيش وقوات الدعم السريع. كانت الشهادات ترصد قتلاً جماعياً على الهوية، إحراق مناطق بأكملها وتهجير قاطنيها. حتى إن مسؤولا أمميا روى كيف أن النساء اللاتي يصلن إلى الحدود التشادية لا يجرُؤ أحد على سؤالهن أين الرجال، لأن الإجابة معروفة سلفاً بأنهم قُتلوا.
ومع توالي فرار الهاربين، تدفقت شهادات عن هول ما يجري في الإقليم. لكن مشاهد القتل الجماعي والحرق لم تكن جديدة عليه، إذ عاش سنوات طويلة من الاضطراب والمعارك منذ 2003 جعلته قابلاً للانفجار في أي لحظة، لا سيما أن الحلول التي كانت تُرسى فيه لم تكن تنفذ إلى عمق الأزمة ومسبّباتها، وإن كان ينظر إليها من كثر أنها أفضل الممكن الذي كان مُتاحاً الوصول إليه في إقليمٍ غرق بحرب دامية أكثر من عقد.
ما يجري في دارفور قابلٌ للتكرار في مناطق أخرى سودانية كلما طال أمد الحرب وانتقلت إلى مناطق تشهد أصلاً نزاعاتٍ متقطّعة وتتسم بتعقّد (وتشعب) عوامل الصراع فيها. وعلى الرغم من أن لا مؤشّرات على إمكانية التسوية حالياً، إلا أنّ الرهان على المفاوضات يبقى ضرورياً، لأن سقوط هذا الخيار يعني أن البديل هو الحرب الطويلة بكل ما تحمله من خطورةٍ ليس فقط على السودان، بل على دول الجوار ككل. فإلى جانب أزمة اللاجئين والنازحين الذين أصبح عددهم يقدّر بالملايين، هناك خطر مزيد من اللاستقرار في منطقةٍ أصلاً ملتهبة، وتنشط فيها التمرّدات والحركات المتشدّدة. كما أن طول المعركة يعني انخراط أطرافٍ أكثر، إقليميين ودوليين، فيها، وتحوّلها إلى حرب بالوكالة بحسب ما تظهر مؤشّراتٌ كثيرة، وما يجرى الكشف عنه في الصحف الأميركية على نحو متواتر منذ أيام.
أظهرت الأشهر الأخيرة صعوبة أداء أكثر من دولة دور الوسيط في الأزمة، بدءاً من السعودية والولايات المتحدة. ورغم نجاح البلدين في تأمين انعقاد أكثر من جولة تفاوض في جدّة، إلا أن نتائج الجولات لم تكن على المستوى الذي يتيح الحديث عن اختراقٍ جدّي قد يوقف الحرب في فترة قريبة، أو أقلّه يرسي هدنة قابلة للصمود فترة يلتقط فيها السودانيون أنفاسهم في ظل الانهيار الواسع في النظام الصحي وتردّي الأوضاع الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في السودان.
وحتى القاهرة، التي استضافت قمّة لدول الجوار قبل أن يُعقد اجتماع تكميلي لها على المستوى الوزاري في تشاد، تبدو مقيّدة في حدود تدخلها. فضلاً عن محاولات عدّة باءت بالفشل من دول أخرى مجاورة، وسقوط مقترح إرسال قوات أفريقية الذي طرح من بوابة هيئة التنمية لدول شرق أفريقيا (إيغاد).
على الأغلب، يعود تعثّر مختلف التحرّكات إلى الدعم الخارجي الذي يحظى به طرفا الحرب إلى جانب اعتقادهما أن أوان التفاوض لم يحِن بعد، ويغلب الظن لدى كل طرفٍ منهما أن في استطاعته حسم الحرب في الميدان وتحجيم الآخر، على الرغم من أن لا مؤشّرات تدلّ على ذلك، بل إن تتبع مسار الحرب داخل الخرطوم أو خارجها يظهر العكس من ذلك.
وإذا كانت الضغوط الدولية والإقليمية، وحتى العقوبات التي فرضت على كيانات وشركات تابعة للطرفين، لم تترك أثرها المطلوب، فإن من الخطأ الاعتقاد أنه لم يعد هناك من أدوات/ وسائل أخرى أو أوراق ضغط يمكن استخدامها، بما في ذلك ما يتعلق بوقف تغذية الحرب من القوى الداعمة لطرفي الحرب.