"بونساي" شجرة الحقيقة
حين تتوقّف وظيفة العقل، فلا يعود يميّز بين الخطأ والصواب، حين يتوقّف عن الفرز والتمييز، يحرن كالبغل عند منعطفٍ ما، أمام تفصيل بسيط من مشهدٍ عام بالغ التعقيد، في دائرة مصغّرة يبقى يدور فيها، مُغفلا كل ما حوله، متغافلا عن إمكانية الخروج والانتقال والسير قدما. هذا ما نراه يحصل كل يوم أمام أعيننا، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، حرنٌ وعناد وتعامٍ عن رؤية الوقائع والثبات على قراءةٍ واحدة، ولـيّ ذراع الحقائق لكي تناسب تلك القراءة. وتكاد لا تصدّق تلك المبالغة، وتقول إن البروباغندا هي هذا بالذات، أن تلوي ذراع الحقيقة، تقصّ وتقطع وتحجّم لكي تدخلها في إناء فكرتك الواحدة. ومهما كانت الحقيقة كبيرة، ضخمة، واضحة، بيّنة، جليّة، فهذا كله لا ينفع. ثمّة تقليد أو تقنية يتّبعها اليابانيون في تقزيم أشجار عملاقة وجعلها أحيانا بحجم الكفّ وحشرها في إناء. عملية التقزيم هذه تنتج نباتات تدعى بونساي أو بونزاي. هي تحتفظ، شكليا بكل خصائص الشجرة، على الأقلّ في المظهر، لكنها مهما اقتربت في مظهرها من الأصل لن تكون شجرة. هكذا هي البروباغندا، بونساي شجرة الحقيقة، إنما بعد تخليصها من كل نزعة جمال أو نظام تتمتّع بها نبتات البونساي.
أنتقل من قناةٍ أجنبية إلى أخرى. لا أعرف ما هذا الهوس المازوشي الذي يسيطر عليّ. أعرف أني سأبتلع سُمّا، ومع ذلك أفعل، أعرف أن أعصاب معدتي ستنعقد، ولا يُثنيني الأمر. ثمّة مشهد سوريالي سيدور الآن تحت عيني، مشهد فيه من سوء النية ومن التغاضي عن المسلّمات، ما يجعل العيون تجحظ ويوقف شعر الأبدان. "ما وجد في مستشفى الشفاء من أسلحة يثبت أن إرهابيي حماس كانوا يستخدمونه مقرّا لعملياتهم"... ثم يظهر الضابط الإسرائيلي أمام بضعة كلاشينكوفات وقنابل وسترات، وهو يشرح لنا منفعلا ما وجده. تكاد تضحك من هبله، ثم تجمد الابتسامة على شفتيك، حين يسأل الصحافي، حفظا لحدّ من المصداقية أدنى، ضيفَه محرَجا: ولكن أين الأنفاق التي رأيناها في الفيديو ثلاثي الأبعاد؟ فيجيب المحلّل: أعطهم يوما أو يوما وسوف يكتشفونها وتنجلي الحقيقة... لكن الحقيقة لا تنجلي، لأن ما يدّعونه بعيدٌ عنها كلية، وسوف تأتي "حقائق" أخرى مماثلة، لتطغى عليها مع ضرب المدارس وسقوط مزيد من المدنيين والأطفال قتلى تحت القصف والدمار.
حين تتوقّف وظيفة العقل فلا يعود يميّز ما بين الخير والشرّ، بل حين تتحوّل الوظيفة إلى عكس أهدافها، فتجعل العقلَ يبدّل الخيرا شرّا والشرّ خيرا، تصبح كل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والإبادة الجماعية والجرائم بحقّ الإنسانية والقيم العظيمة التي صنعها عصرُ الأنوار والتقدّم، "بونسايات" تافهة وعناصر ديكور تُستخدم للزينة فقط، فيما تتنامى في شوارع العالم أجمع أشجارٌ ضخمةٌ هادرةٌ تتمدّد غصونها وتخرج جذورُها العملاقة، مهدِّدةً بالانفجار.
حين تتوقف وظيفة الإحساس والتعاضد الإنساني والرحمة وطلب العدالة والمساواة والشعور بعذابات الناس والدفاع عن الضعفاء والمقهورين والتوق إلى مُثُلٍ عليا، فما الذي يتبقى؟ تصبح الحضارة البشرية بأكملها في عينيك "بونساي" تافهة لا قيمة لها، تُغريك بحملها وبقذفها من النافذة، قبل إطفاء النور والجلوس عاجزا في عتمة شاملة. أجل، ما الذي يتبقّى لكي تتمسّك به، أنت الدودة العارية، وأين تراك ستضع كل تلك الوجوه البريئة التي تغمرك مثل تسونامي عملاق؟
أنتَ في العتمة الشاملة، سابحٌ بين الأهداب المسبلة، والعيون المطفأة، والأطراف المخلّعة، والأجساد الصغيرة المذعورة المرتعدة التي لا تفقه ما يجري، ولمَ أمطرتها السماءُ بكل هذا الشرّ والحقد. كيف ترتبها ولا تتخلّى عنها وتقاوم اعتيادَها، مبقيا على ما فيك من بشريّ؟