تراوري... أو نجم "الشبّاك"
بخطابٍ حماسيٍّ في القمّة الروسية الأفريقية أخيراً، ألهب فيه مشاعر "الغلابى" الذين يشاطرونه أسئلته عن مآل ثروات أفريقيا، وببذلته العسكريّة التي توحي بأنه قادم للتوّ من معركة لم ينقشع غبارها بعد، أصبح الرئيس البوركيني الشابّ إبراهيم تراوري "نجم الشبّاك"، تهفو إليه أفئدة الحالمين بالانعتاق من الهيمنة الغربية على العالم الثالث، وسرعان ما أصبح فيديو خطابه "ترند" على عديد من مواقع التواصل الاجتماعيّ، ربما لأن تصريحاته المثيرة تصدر عن شابّ أسمر وسيم، أو لأنه أصغر رؤساء الدول سنّاً، علاوة على أن خطابه لبّى ظمأ كثيرين من مناصري روسيا في حربها المندلعة مع أوكرانيا، الذين يترقّبون الحصاد، ولا سيما ما يتصل منه بتعدّد القطبيّة.
ذلك كله ممكن، غير أن الأهمّ أن بواعث الاهتمام الخفيّة بالرئيس تراوري وخطابه مبنيّة على جدلية "العبد" و"السيّد" الكامنة في الشخصيّة الأفريقيّة نفسها، التي يعزّزها تاريخ طويل من الاستعباد الذي لحق بأبناء هذه القارّة على مرّ العصور، وإن كان أفدحها ما شهدته القرون الثلاثة الأخيرة، حصراً، ولا سيما من الولايات المتحدة التي كانت تجد في هذه القارّة "خزّان عبيدها"، وكذلك من فظائع الاستعمارات الأوروبية للقارّة، وأبرزها الفرنسي والبلجيكي والإيطالي. ترك ذلك كله أثراً غائراً في الشخصية الأفريقية التي كانت تشعر، ولا تزال، بعقدة أمام "الأسياد" البيض، كلما جمعتهما المحافل معاً، على الرغم من أن العقود الأخيرة شهدت نوعاً من التحلّل من هذه العقدة، مع تحرّر جنوب أفريقيا وناميبيا من الحكم العنصري.
السؤال الأهمّ، وربما الصادم للمفتونين بشخصية تراوري: هل في وسع زعيم يرتدي البزّة العسكرية، ويتولّى سدّة الحكم بانقلاب عسكريّ، أن يكون من حملة مشاعل الحرية في هذه القارّة؟
مَن يُجب بنعم، فهو من فئة الملدوغين من الجُحر الواحد عشرات المرّات، لأنهم لم يتعلّموا من متوالية الإخفاقات التي لحقت بالانقلابات العسكرية طوال القرن الماضي، في دول العالم الثالث، التي لم تتكرّس "ثالثيّتها" إلا على بساطير الجُند الذين غدوا بين ليلة وضحاها حكّاماً ووزراء، وشخصيات سياسية، فمثل هؤلاء أصبحوا أشدّ وبالاً على الحرّيات المدنية من الأنظمة التي انقلبوا عليها. شهدنا ذلك في دول أفريقية، مثل أوغندا عيدي أمين الذي أوحت إليه "عظمته" أنه يصلح لأن يكون ملكاً على اسكتلندا، بينما آثر عسكريّ آخر، حكم أثيوبيا بانقلاب عسكريّ، أن يدفن جثة سلفه المطاح تحت بلاط مكتبه في القصر الرئاسيّ.
وعلى من يزعم اختلاف تراوري عن العسكر الآخرين، أن يستعرض أمثلة تحاكيه، من عسكر وصلوا إلى الحكم بنيّات طيبة، لكنهم سرعان ما انقلبوا على نيّاتهم، متناسين ما قاله فيلسوف الثورة الفرنسية مونتسيكيو: "السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، فمعضلة الشخصية العسكرية أنها ذات قراراتٍ قاطعة، قاعدتها العريضة "نفّذ ثم ناقش"، بل إنها نسخت الشطر الثاني من القاعدة، عندما تسلّمت سدّة الحكم، وبات ديدنها "نفّذ ثمّ نفّذ"، بمعنى أنها شخصيّة فرديّة لا تقيم وزناً للحريات والديمقراطيات، وهو ما يقود لاحقاً إلى الخراب والفساد، وغياب العدل، وتكافؤ الفرص، وكلّها أمراضٌ تجهض التنمية الحقيقية، وتسلّم مقاليد البلاد والعباد لـ"الأسياد" في الغرب، الذين يستميلون الحكّام العسكر، بوعود تعزيز سلطتهم وتخليدِها، لقاء نهب ثروات البلد. وهنا يتغافل الحالمون، أيضاً، عن رأيٍ أدلى به نعوم تشومسكي، ويصلح لسحبه على دول القارّة الأفريقية: "الغرب لا يريد شيئين في العالم العربيّ، ديمقراطيّة حقيقيّة تمكّن الشعوب، وتنمية وطنيّة تنهي الاعتماد العربي على الغرب".
محصّلة القول، يتعيّن أن نرشّد قليلاً من هياجنا كلّما نجح انقلاب عسكريّ، أو كلّما أدلى زعيم برتبة "نقيب" بخطابٍ ناريّ يعد فيه بحرق الإمبريالية، والهيمنة الأحاديّة، لأنها نارٌ سرعان ما تتحوّل إلى برد وسلام على أميركا وحلفائها، بقرار عسكريّ أيضاً، من الحاكم الجديد نفسه، على غرار حاكم ثوريّ وعدنا بحرق نصف إسرائيل، فحرقنا نحن لاحقاً.