تونس ... تحريض وتواطؤ
لم يكن مفاجئاً ما شهدته مدينة صفاقس التونسية من صدامات بين الأهالي ومهاجرين أفارقة عقب مقتل مواطن تونسي. تحولت المدينة، منذ فترة، إلى موطئ قدم لمهاجرين عديدين يصلون إلى تونس، على أمل خوض مغامرة الهجرة عبر البحر إلى إحدى الدول الأوروبية وتحديداً إيطاليا. وإذا كانت مسألة زيادة عدد المهاجرين تثير ضيقاً مجتمعياً، فإن الشحن السياسي ضد المهاجرين، تحديداً من الرئيس التونسي، قيس سعيّد، لا يمكن إغفال دوره في تأجيج الوضع، فقد أشعل التحريض في شهر فبراير/ شباط الماضي، عندما ربط بين تدفّق المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء ووجود مؤامرة هدفها "تغيير التركيبة الديمغرافية" لتونس. ولم تمرّ هذه التصريحات مرور الكرام يومها، وأثارت جدلاً داخل تونس وخارجها. وجِّه الاتهام لسعيّد ليس فقط بالعنصرية ضد الأفارقة، بل أيضاً بالتحريض ضد المهاجرين، بعدما وضعهم في خانة المتآمرين الذين يسعون إلى تغيير وجه تونس. ويومها أيضاً اضطرّت دول أفريقية عديدة إلى إجلاء رعاياها من تونس، تحديداً ممن تخوفوا على حياتهم في ظل حملة التحريض التي أطلق العنان لها الرئيس.
لم يتوقّف سعيّد عن هذا الحد، إذ اعتبر عقب جريمة صفاقس أن "الوضع غير طبيعي". وتساءل في نغمةٍ مشابهة، وإنْ أقلّ حدّة مقارنة مع تصريحاته في فبراير/ شباط: "هل هؤلاء مهاجرون أم مهجّرون من جماعاتٍ إجراميةٍ تتاجر ببؤسهم وتتاجر بأعضائهم، وتستهدف قبل هذا وذاك السلم الأهلي في تونس؟".
وترافقت هذه التطوّرات مع أنباء عن تعرّض المهاجرين لانتهاكات واسعة من ضرب وإساءات. ومع تأكيد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية يوم الأربعاء الماضي أن السلطات التونسية رحّلت مئات المهاجرين، من بينهم نساء وأطفال هذا الأسبوع قرب الحدود الليبية، وسط ظروف إنسانية صعبة، سيما أن بينهم نساء وأطفالا.
المشكلة أن سعيّد اختار معالجة القضية بتبنّي خطابٍ أولاً، وممارسات ثانياً، تتواءم مع خطاب اليمين الأوروبي، بل كأنه أصبح ناطقاً باسمه. وهو ما يفسّر الإعجاب الأوروبي المستجدّ به، وتحديداً من إيطاليا، إذ زارت رئيس الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، تونس مرّتين خلال أيام قليلة، في شهر يونيو/ حزيران الماضي. وبينما زارت تونس وحيدة في المرّة الأولى، إلا أنها في الثانية اصطحبت معها رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، ورئيس الوزراء الهولندي، مارك روته.
وتبدو ميلوني في الآونة الأخيرة أنها تبذل الغالي والنفيس لإنقاذ سعيّد اقتصادياً، وتقديم التمويل له من الاتحاد الأوروبي، ليتحوّل إلى حارس لحدودها، وإن نفى الرئيس ذلك بقوله إن "تونس لا تقبل أن تكون منطقة عبور أو أرضا لتوطين الوافدين عليها من عدد من الدول الأفريقية، ولا تقبل، أيضا أن تكون حارسة إلا لحدودها". ولكن الشواهد تعارض ما يقوله سعيّد، إذ تتّجه تونس إلى توقيع اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي موجّه في الأساس لمكافحة الهجرة مقابل تقديمات مالية تصل إلى 900 مليون دولار، من بينها أكثر من مائة مليون مخصّصة لإدارة الهجرة في 2023 فقط، وإنْ تحدّث البيان المشترك عقب زيارة الوفد الأوروبي عن شراكة واسعة تتضمّن العلاقات الاقتصادية والتجارية والتقارب بين الشعوب.
مرّة جديدة، يُظهر مسار الأحداث أن الدول الأوروبية قادرة على غضّ بصرها عن نظام مستبدّ يقوده شخصٌ مثل سعيّد، لا يتوانى عن الانقلاب على جميع المؤسّسات الدستورية والديمقراطية منذ 25 يوليو/ تموز 2021، مقابل حماية مصالحها. وتشكّل الأحداث أخيرا في تونس شاهداً إضافياً على اجتماع التحريض الرسمي لديكتاتور مثل سعيّد مع التواطؤ الأوروبي لصنع مأساة جديدة، يدفع ثمنها مهاجرون اختاروا تونس نقطة عبور أقرب إلى حلمهم بالوصول إلى أوروبا أملاً في حياة أفضل.