ثقافة بلا أخلاق؟
عشية سفري إلى لبنان قادمةً من باريس، اتصلت بي صديقة فيسبوكية، هي الشاعرة الجزائرية سعاد لعبيز، تسألني إن كنتُ على علم بمنح الباحث الجامعي والشاعر والمترجم التونسي، أيمن حسن، الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة لدورتها العشرين، مستنكرةً كيف تمنح جهة ثقافية تحترم نفسها جائزتها لمتحرّشٍ توجد بحقه شكاوى مرفوعة من طالبات في معهد التعليم العالي في تونس، تسبّبت، في النهاية، في طرده منه. قلت لسعاد إنّي على غير علمٍ بهذه القضية، وتعلّلتُ بسفري وعدم امتلاكي ما يكفي من الوقت للتعمّق بالموضوع. لكن، الآن، وأنا أستعيد الأمر، أشعر بالخجل، وأفكّر أنّ ما كمن وراء ردّ فعلي الأوّلي المحايد، ولا بدّ، هو نزعة نسوية فاعلة وناشطة، لا أتماهى دائماً معها، خوفي من أظلم بريئاً طالما أنّ المتّهم يبقى كذلك حتى يثبت العكس، مع الاحترام والودّ اللذيْن أكنّهما للمسؤول عن الجائزة إياها.
غداة وصولي إلى بيروت، نُشرت شهادة الصحافية اللبنانية، فاطمة فؤاد، وفضيحة الاعتداء جنسياً عليها، بعدما قرّرت كسر الصمت، فكتبت في الفضاء الفيسبوكي بالتفصيل ما جرى لها، مع موجزٍ قالت فيه: "كنت أعمل مديرة لمساحة ومكتبة برزخ في منطقة الحمراء ضمن بيروت، بين ديسمبر/ كانون الأوّل 2019 ومارس/ آذار 2020. ليلة رأس السنة، نظّمنا الحفلة الافتتاحيّة لبرزخ بالتعاون مع فريق معازف وBallroom Biltz بعنوان تسقط الـanxiety، قام بإحيائها 12 موسيقياً/ة من المشهد العربي، من بينهم المدعو ب. س. (فلسطيني - أردني) والمدعوّة آ. م (مصريّة)، اللذان قاما بالاعتداء عليّ عبر تخديري رغماً عنّي واغتصابي، وذلك بتاريخ 31/12/2019". فاطمة التي لم ترفع دعوى قضائية بحق المعتديين، وضعت شهادتها في إطار "إعلان خدمة عامة، برسم كلّ الفاعلات/ين في المشهد الموسيقي" مضيفةً، في تعليق آخر على صفحتها: "فهمت الآن أنّ فضيحة جنسية كالاغتصاب كفيلة بتعرية المشهد البديل والمستقل، النيوليبرالي المهيمن على الإنتاج الموسيقي والفني والثقافي، وبالمساهمة في كشف طبيعة علاقات القوة ضمن هذه الشبكة الاجتماعية- الاقتصادية"...
قد يكون تعليق فاطمة الأخير هو الأشدّ خطورة، وأكثر ما ينبغي أن يشغلنا اليوم، كما هو استنكار سعاد التي رأت في منح الجائزة وصمت الإعلام مهانة إضافية وإذلالاً للناجيات. ففي القضيتين المذكورتين، وبغضّ النظر أنّ الضحايا نساء أم لا، لا يحقّ للمعنيين التنصّل أو ادّعاء الجهل، كما لا يحقّ لنا التغاضي وعدم التقصّي والمساءلة، فالجوائز الأدبية ستقول عكس قيمها ومبادئها حين تُمنح لأدباء يبتعدون، بسلوكاتهم المشينة، عمّا ينبغي للثقافة أن تكون عليه: تهذيبٌ لأخلاق الإنسان ووسيلة لجعله أكثر إنسانية. والتستّر على جريمة اغتصاب بمثل ما فعل مدير مجلة معازف الذي قرّر تجاهل الموضوع وحماية "فنّانه" معتبراً ربما أنّ في سلوك فاطمة ما دعاه إلى اغتصابها، أو مبرّراً ربما بأنّه جنون الفنانين وتمرّدهم على القوانين وحقّهم في التنفيس وارتكاب ما لا يحقّ لغيرهم، أمرٌ شائن ومرفوض، ويكاد يُعلن إفلاس أي مشروع ثقافي، مهما كبر وعلا شأنه.
وبالنظر من مسافةٍ كافية إلى الحادثتين، ومهما حاولنا تناسي جنس الضحايا، لا يمكن لنا إلّا أن نتذكّر أنّ بإمكان الثقافة الذكورية أن تتحوّل إلى شبكة أمان، حين تصبح مبادئُ مثل الانفتاح والتسامح وتقبّل الآخر دروعاً لحماية المجرم والتضامن مع المعتدي، وسبيلاً للإفلات من المحاسبة، أو تبريراً لسلوكاتٍ مخجلةٍ تنطلق من مبدأ "يحقّ للفنان ما لا يحقّ لغيره". والحال أنّنا، نحن الذين ما زلنا واثقين ومؤمنين بأنّ الثقافة هي صخرة خلاصنا الأخيرة وأملنا ومتنفسّنا الوحيد، ندرك جيداً أنّها لا تقوم ولا تستوي من دون مبادئ أخلاقية واضحة، وأنّ قيماً كالحرية والمساواة والعدالة ومناصرة الضعيف... إلخ، هي القيم الأساس التي ينبغي لكلّ ثقافة أن تستند إليها وتروّجها، في كلّ مكان وزمان.