ثورة حتّى الصِّفر
عندما وقف رفاق سبارتاكوس السجناء تباعاً أمام الجلّاد الذي كان يبحث بينهم عن سبارتاكوس، محرّر العبيد، ليجيب كل واحد فيهم: "أنا سبارتاكوس"، فذلك لم يكن يعني مجرّد التمويه وتشتيت الجلاد عن الفارس الذي أرعب الطغاة، بل كان يعني أن كل واحدٍ من هؤلاء أصبح "سبارتاكوس" فعلاً، وعلى الجلّاد أن يتعامل بعد الآن مع ثورة كاملة، لا مع فردٍ واحد أضرم ثورة.
وعندما يتداعى شبّان مخيم شعفاط الفلسطيني إلى حلق رؤوسهم "على الصفر" المطلق، فلا يعني ذلك أنهم يحاولون تمويه أرض المعركة لإخفاء رفيقهم ابن المخيم، الشهيد لاحقاً، عدي التميمي، الذي نفّذ عملية نوعية ضد جنود الاحتلال، عندما أوقف سيارته على أحد الحواجز، وخرج منها بثقة عارمة وهدوء غريب، وهو يحمل رشاشاً راح يُجهز به على الجنود من مسافة "صفر"... عندما يحدُث ذلك كله، لم يعد العدو يطارد شابّاً، بل شعباً برمّته قرّر أن يكون عديّ التميمي.
في الحالين، لم يكن رفاق سبارتاكوس والتميمي ينفذون عملية "تمويه"، بل عملية تناسخ وإحلال، يعرفون أن ثمنها العاجل قد يكون موتهم، لكنّ مردودها الآجل سيكون حريتهم.
وللرقم صفر في حياة الفلسطيني محمولات خاصة، يصعب أن يدركها من لم يكتوِ بجحيم الاحتلال الصهيوني، وشواظ المحيط العربي، فهو الرقم الذي يطارد الشعب هناك من لحظة الميلاد حتى الممات؛ لأن ما دون الحرية صفر، وما دون الوطن صفر، حتى لو امتلك الفلسطيني المقاوم كنوز الدنيا، وكلّما حاول أن يعدّ أنصاره من أمة العرب لا يتجاوز الرقم صفراً. عندها عرف المقاتل هناك أن عليه أن يحوّل رقم ضعفه إلى قوة، فبدأت سلسلة عمليات أخيرة قوامها المسافة "صفر"، يزاولها شبّانٌ أطلقوا على أنفسهم مسمّى "عرين الأسود"... وكانت ثورة "من الصفر" فعلاً، بعد أن تحوّلت الأرقام الأخرى إلى زبد وغثاء وحسابات في البنوك، ومن "ثورة حتى النصر" إلى "ثورة حتى الصفر".
ولأن الصفر رقم مكشوف، قرّر شبان العرين اتباع تكتيك جديد، قوامه نزع اللثام الذي ميّز الثائر الفلسطيني منذ انطلاق بواكير ثورته في أواخر ستينيات القرن المنصرم، ورافقه طوال رحلة نضاله، بما فيها الانتفاضتان الأولى والثانية. كان اللثام رمزاً يتّشح به المقاتل والمقاوم ورامي الحجارة، لضرورات التمويه أحياناً، ولتوحيد الجهود في مقاومة العدوّ، أطواراً أخرى، فالملثّمون كانوا ينتمون إلى فصائل متعدّدة، وإلى قطاعات شعبية غير منظمة، ومن شأن اللثام الموحد أن يصهر الوجوه ويخفيها لتغدو وجهاً واحداً بلا ملامح، لأن الملمح الأساسي هو فلسطين ذاتها التي يقاتل الجميع من أجلها.
وفي المرحلة الجديدة، تغيّرت الحال، وغدت عملية الاصطفاف حتمية، بين "عرين الأسود" و"عرين الأرانب" الذي تمثله سلطة أوسلو، ولا غرابة أن ينشأ العرين الأول غداة التنكيل الذي شهدته مدينة نابلس على أيدي أزلام السلطة في الأسابيع الأخيرة. صحيحٌ أن الإرهاصات بدأت قبل ذلك، غير أن قرار "إماطة اللثام" اتّخذ، أخيراً، على ما يبدو؛ لفرز الخبيث من الطيب، والمقاتل من المقاول.
أميط اللثام في لحظة مصيرية، شعر فيها المقاوم بالاختناق بين مطرقة السلطة وسندان المحتلّ، فقرّر أن تصبح المواجهة مكشوفة مع الطرفين، لأنه يعرف أنه سيتعرّض لمطاردة مزدوجة بعد أن تكشّفت ملامحه، الأولى من السلطة، والثانية من المحتلّ إن عجز الوكيل عن اعتقاله وتسليمه للعدوّ. ها هنا يبلغ التحدّي في العروق النافرة ذروته، على قاعدة لم يعد هناك ما نخسره بعد أن خسرنا الرهان على ثورةٍ أولى، نزعت لثامها وتحوّلت إلى سلطة بيد المحتل. ونحن علينا أيضاً أن ننزع لثامنا لنقاوم "رومَيْن"، من أمامنا ومن وراء ظهرنا.
ليس انتحاراً ما يُقدم عليه شباب عرين الأسود، وهم يكشفون ملامحهم، بل هي مطلع ثورة حقيقية، عنوانها الفرز، ووضع النقطة فوق نون النضال، وخاء الخيانة.