حرمان غزّة من المساعدات
حسناً فعلت الدولُ التي قرّرت التراجع عن وقف تمويل "أونروا"، وإن استغرقها ذلك أسابيع عدّة لإدراك حجم الخطأ المُرتَكَب في مقاربة موضوع الوكالة الأممية. بصمت الولايات المتّحدة، ومعها دول أوروبية، وأخرى يفترض ألا تكون على هذه الدرجة من الالتصاق أو التبعية، على مزاعم إسرائيل وحوّلتها إلى حقائق مطلقة بنت عليها قرار معاقبة الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وخارجها، أخذاً بعين الاعتبار حقيقة دور الوكالة وامتداداته إلى دول اللجوء. قفزت هذه الدول عن اعتبارات عدّة. أوّلها، أنّ الادّعاءات الإٍسرائيلية، وإن صحّت، لا تطاول سوى نسبة لا تُذكر من عدد موظفي الوكالة، وأنّ الاحتلال لم يكن قادراً في أي لحظةٍ على تقديم دليلٍ واحدٍ على مزاعمه، وحتى تلك الدول لم تكبّد نفسها عناء طلب إثباتات.
وإذا كان الانجرار الأعمى خلف إسرائيل في المرحلة الأولى، ممّا يمكن تسميته بكلّ وضوح افتراء على "أونروا"، قد حقّق للاحتلال ما يريده على صعيد التمادي في مخططه المعلن لتفكيك الوكالة، فإنّه تبيّن أنّ لا بدائل عنها، والشراكة مع الاحتلال في محاصرتها ومنع أعمالها هي شراكة في حرب الإبادة والتجويع لأهالي قطاع غزّة.
ترافقت الحرب على "أونروا" ومنعها إدخال المساعدات إلى الشمال مع ارتفاع خطر المجاعة إلى مستويات غير مسبوقة. لكن كلّ ذلك لا يأبه له الاحتلال. تركيزه انصبّ على محاولة اختراع كيانات بديلة عنها، لكنه لم يفلح في ذلك. لم يوفّر الاحتلال وسيلةً إلا استخدمها لتجويع الشعب الفلسطيني في غزّة بما في ذلك الاستهداف المتكرّر للمساعدات، والمهجّرين الذين يصطفون في طوابيرَ للحصول عليها، وحتى للعشائر التي كانت، حتى الأيام الماضية، تساهم في تأمين القوافل وتنظيمها بعدما تعمّد جيش الاحتلال اغتيال كلّ من له علاقة بتنظيم آلية دخول المساعدات. وكلّ ذلك لا يمكن تفسيره إلا من خانة الحرص على عدم السماح بمسارٍ منظمٍ للمساعدات، والسعي لإحداث فوضى واسعة لن تكون إلا على حساب الأهالي والإيغال في تعميق معاناتهم. وحتى التماهي مع مطلب الاحتلال بمسار مختلف للمساعدات بعيداً عن معبر رفح، وابتداع فكرة الممر المائي من قبرص، واضح أنّ إسرائيل لا تريد له الاستمرار بسلاسة، بعدما قصفت قافلة فريق منظمة المطبخ المركزي العالمي (World Central Kitchen)، وأظهرت التحقيقات تعمداً واضحاً لتصفية الفريق الذي كان موزعاً بين ثلاث سيارات، رغم معرفة جيش الاحتلال مسبقاً بمسار سيره. وبطبيعة الحال، لم تحتج إسرائيل إلى اختلاق ذرائعَ لما فعلته طالما تتوفّر في معجمها عبارات من قبيل "خطأ في زمن الحرب". كما تعوّل إسرائيل على حقيقة أنّ كل المواقف المنددة بالجريمة ستخفت تباعاً وتتلاشى طالما أنّها لم ترتقِ إلى ردود فعل تحمّل الاحتلال مسؤوليته بوضوح. وكذلك، تستند إلى دعم أميركي طالما أنّ المسؤولين في واشنطن يتمسّكون بلازمة أنّهم لم يروا أي دلائل على تعمد إسرائيل ارتكاب جرائمها.
ما يحدث في ملفّ المساعدات بما فيها القادمة عبر الممر القبرصي، والتي تَعطّل دخولها إلى القطاع منذ الاثنين الماضي، بعد عودة سفينة كانت متّجهة إلى غزّة إلى ميناء لارنكا، وكذلك في مسار مفاوضات الوقف المُؤقّت لإطلاق النار وتبادل الأسرى، والمتوقف عند نقاط الخلاف نفسها، منذ فبراير/ شباط الماضي، يشير بوضوح إلى غياب أي رغبة للاحتلال، وبشكل أدقّ لبنيامين نتنياهو، في تحقيق أي اختراق في مسار الحرب. وكلما برزت له دعوة في هذا الاتجاه عمد إلى فعل نقيضها. المطلوب بالنسبة إليه إطالة أمد الحرب أكثر لحسابات سياسية داخلية بالدرجة الأولى. وإذا كان نتنياهو واضحاً في أهدافه، ومسارات تحقيقها، فإنّه لم يكن ليتمادى إلى هذا الحدّ لولا حالة العجز المهيمنة دولياً وعربياً. وكلما ابتعدتْ صورة النصر التي يبحث عنها، بعد ستة أشهر من العدوان، تَغَوّل في جرائمه.