خطابات بالرصاص المطّاطي
كنت أودّ أن أصدّق ساسة العرب وهم يسنّون رماح بلاغتهم، ويذخّرون بنادق خطاباتهم للردّ على المجازر الصهيونية في غزّة. وللحقّ ضاهت بل تفوّقت صواريخ كلامهم على العدوان نفسه، وكان حريًّا بها أن تدحره بقوة نيرانها وشراسة مقذوفاتها، فلأول مرّة نسمع عبارات على غرار "العدوان البشع"، و"النازي"، ولأوّل مرة تستخدم توصيفات عالية النبرة في الإدانة، مثل "جرائم الحرب"، و"الإبادة الجماعية"، وضرورة "المحاسبة"، وإطلاق التعهدات برفع الانتهاكات إلى المحاكم الدولية.
قيل ذلك كله وأدهى، حدّ أن بعض أولئك الساسة لم يكن ينقصه غير الزيّ العسكري، وهو يحذّر من أن التهجير هو بمثابة "إعلان حرب"، غير أن الأحداث ما تزال تبرهن أنهم لا يستخدمون غير الرصاص "المطاطيّ" للتلويح والتهديد، ربما لكثرة ما استخدموه لقمع شعوبهم، فالتهجير بات على أبوابهم ولا يحرّكون ساكنًا، والمجازر تستأنف بعد الهدن، ولا ترجمة للأقوال إلى أفعال، ولا أفق لأيّ ردّ حقيقيّ ملجم للعدوان.
ولعلّ معضلة هؤلاء الساسة أنهم ما زالوا يعتقدون أنهم أذكى من شعوبهم عندما يطلقون تلك التصريحات الملتهبة، معتقدين أنها ستنطلي على الرعايا، وستجعلهم أبطالًا مشاركين في معارك الشرف الدائرة في غزّة وتخومها. لكن من يصدّق حاكمًا يتوعّد ويتهدّد، وفي بلده قاعدة أميركية لا يهدأ هدير طائراتها المحمّلة بالعتاد والذخيرة إلى إسرائيل؟ ومن يصدّق مسؤولًا غاضبًا على إسرائيل وفي بلده سفارة لإسرائيل؟ ومن يصدّق بيانات الشجب والاستنكار من دول لم يردعها دم غزّة عن إلغاء معاهدات "السلام" مع إسرائيل، أو تجميدها على الأقلّ، أو قطع العلاقات الدبلوماسية، ولو من قبيل ذرّ الرماد في العيون؟
لا أصدّق ولن أصدّق، لا لشيء سوى لأنني على ثقة أنّ هذه الأنظمة تشاطر الكيان الصهيوني أهدافه المعلنة والخفية من عدوانه على غزّة، وما اعترافات نتنياهو ببعيدة عندما أفصح عن تعرّضه لضغوط كبيرة من أنظمة عربية "حميمة" للقضاء على "حماس"، ومنها من يسهم بتمويل الحرب، وتعويض خسائر إسرائيل الاقتصادية في سبيل تحقيق هذا الهدف "المشترك".
ندرك أنّ "حماس" وكلّ من يرفع شعار المقاومة في غزّة وغيرها مصنّفة في خانة "العدوّ" لدى أنظمة عربية عدّة، لأسبابٍ شتّى، أقلّها أن انتصار "حماس" ليس انتصارًا على إسرائيل وحدها، بل على سائر أنظمة التطبيع والتركيع، التي تريد لهذه الأمة أن تظلّ سادرة في أطواق عبوديّتها، تناهض الوعي، وتحارب مصطلحات المشاركة في اتخاذ القرار، واستعادة الإرادة، وتخشى من "عودة الروح" إلى الجموع، حفاظًا على عروشها، ولا خلاص لها إلا بانكسار المقاومة في غزّة؛ لأن ذلك يعني كسر الإرادة الشعبية العربية التي وجدت في خطابات أبو عبيدة خير معبّر عنها، وفي كرامة يحيى السنوار، وتكتيكات محمد الضيف، ما يعيد إليها الثقة بنفسها، وبقدرتها على انتزاع حقّها المشروع في حيّزها العالمي الذي اختطفه منها القريب قبل البعيد... والأهمّ أن المقاومة في غزّة برهنت لها قدرة العرب على هزيمة المحتلّ، حتّى من دون تحقيق "توازن القوى" الذي توارت خلفه أنظمة كثيرة، منها "ثورية"؛ للنأي بمجالس قيادتها عن الحرب وتبعاتها، وجعلتها حربًا "مؤجّلة" إلى حين تحقيق هذا "التوازن". وقبل ذلك لـ"تطهير" البلاد من "الطابور الخامس"، ومن أيّ صوتٍ معارض، فميدان المعركة تلزمه أرض "نظيفة" معقّمة من كل المعارضين والمناوئين، وأصحاب "الصوت الآخر".
ذلك مدرك وأزيد، غير أن ما لا يدركه هؤلاء الساسة المتذاكون على شعوبهم أن النصر تحقق منذ 7 أكتوبر، وأن كلّ ما يحدث من مجازر الآن ما هو إلا محاولات عقيمة للتخفيف من حدّة هذا النصر على الكيان الذي هزم عند اختراق أوّل مقاوم غزيّ غلاف غزّة، وما على تلك الأنظمة عالية الصوت غير أن تلجأ إلى أقرب قاعدة أميركية في بلادها لعلّها تظفر بالنجاة على متن مروحية قد تتّسع لها (والأغلب أنها لن تتّسع).