دائرة الأكاذيب الدولية
عندما يتبنّى رئيس الدولة الأغنى والأقوى والأكثر نفوذاً اليوم، جو بايدن، رواية الإسرائيليين الكاذبة عن قصفهم مستشفى المعمداني في غزّة، بالقول إن الجانب الفلسطيني هو المسؤول عنها، فإن هذه البساطة في تبرئة المجرم وإدانة الضحية تشي بأن الكذب وتزوير الحقائق في السياسة الخارجية الأميركية أمرٌ معتاد، لا يحتاج جهداً ولا وقتاً، لا تأنّياً ولا طول نظر. ما أبسط الكذب!
وإذا كان هذا حال رأس الدولة، فطبيعي أن يكون ذاته حال الإعلام: كذب بلا حدود. ولكن ليست تلك المشكلة وحسب، بل السلاسة في الكذب، واستمراؤه، والمداومة عليه، بشكلٍ يوحي لسامعه بأنه ربما يكون حقيقة فعلاً، بل أنه يكاد يتحوّل حقيقة عند سامعيه، مع تكراره وإعادته بلا انقطاع ولا وجع ضمير.
والحال أن بايدن حين يتعمّد الكذب بالقول إن قصف مستشفى المعمداني في غزّة، الذي راح ضحيته نحو 500 شخص، معظمهم من الأطفال والنساء، وكلهم من المدنيين، نتج عن "إطلاق خاطئ" للصواريخ من حركة الجهاد الإسلامي، ما أدّى إلى سقوطها على المستشفى الفلسطيني بدل اتجاهها نحو هدفها الإسرائيلي، فهو إنما يقدّم لنا، نحن العرب، نموذجاً واضحاً وصريحاً على نهج الولايات المتحدة في التعامل مع "خصومها" المفترضين. إنه نموذج يمكننا تفحّصه بعيوننا وذاكرتنا وتجاربنا ومعلوماتنا كلها، فنجد أنه كذبٌ بواح لا يرقب في الحقيقة والصدقية إلّا ولا ذمّة.
لقد عرفنا الكذبة هذه المرّة، لأننا خبرنا خلفياتها ودوافعها، وتابعنا يومياتها، أي لأنها تخصّنا وتستهدفنا. لكن ما الحال مع ادّعاءات أميركية لا يمكننا فحص ما فيها من أكاذيب، حين تتعلق بواقع جغرافي بعيد، لم نخبر خلفياته، ولم نتابع يومياته؟ أو بقومٍ لا نعرفهم، ولا ندرك تاريخهم مع إمبريالية الغرب وأكاذيبه؟.
إعلامنا يكرّر من "مصادره الغربية" أكاذيب الولايات المتحدة عن الصين، بل ويتبنّاها ويدافع عنها، معتقداً أنها ربما تكون صحيحة
سنقع ضحية تصديقه فعلاً. ألا ترى إعلامنا يكرّر من "مصادره الغربية" أكاذيب الولايات المتحدة عن الصين؟ بل ويتبنّاها ويدافع عنها، معتقداً أنها ربما تكون صحيحة، وتنطوي على معلومات تستحقّ النقاش. يقول لك: هناك معلومات تقول إن الصين فعلت كذا. طيّب يا سيدي: هناك معلومات تقول إن الفلسطينيين هم من قصفوا المستشفى بالخطأ. ما رأيك؟ هيّا تفضل إلى النقاش، لديك وجهتا نظر ومعلومات متعارضة من طرفي الجدال لا بد من طرحهما معاً. هيّا تفضل إلى حيث تصبح الحقيقة والكذب مجرّد وجهتي نظر متكافئتين متساويتين، لا يجوز لك اتّباع إحداهما وإنكار الأخرى، وإلا أصبحتَ منحازاً وغير نزيه!
هل شعرتَ، الآن، أخي العربي، بشعور شعوب الشرق والغرب التي تكذب الولايات المتحدة بشأنهم، وتكذب معها وكالات أنباء وصحف كبرى نسميها "عالمية"؟ تلك بالطبع تسمية مضلّلة، لأنها تنطوي على نعتٍ، غير دقيق، بالموضوعية.
هل تذكُر، أخي العربي، قصة صاروخ الفضاء الصيني الذي انشغلت وسائل إعلام أميركية وبريطانية كبرى في عام 2021 بترويج أنه تائه في الفضاء، بعدما فقدت الصين السيطرة عليه، قائلة إنه سيسقط على كوكب الأرض في مكانٍ غير معلوم ما قد يتسبّب بأذى للبشرية؟ هل تذكُر أن معظم وسائل الإعلام العربية تبنّت تلك الرواية الغربية وكأنها حقيقة، أو أنها احتمالٌ قائم فعلاً ومؤشّر إلى عدم قدرة الصين على تحمّل مسؤولية أن تكون دولة كبرى (عين ما أراده من روّجوا تلك الكذبة)، من دون أن تكلّف نفسها سماع ما كان يقوله الإعلام الصيني إن "جسم الصاروخ مصنوع من سبائك الألومنيوم، وسيحترق بسهولة في الغلاف الجوي. وإن مسار طيران الصاروخ ليس خارجاً عن السيطرة، وإن وسائل إعلام غربية تضخّم مزاعم عن "تهديد الصاروخ الصيني الخارج عن السيطرة"، وهي حيلة قديمة يستخدمها الإعلام الغربي في كل مرة يرى فيها اختراقات تكنولوجية صينية. ... كانوا يكذبون، فما جرى بعد ذلك هو ذاته ما كانت تقوله الصين عن صاروخها، لا ما كان يقوله إعلام الأكاذيب بشأن "الآخر" الهمجي. وما يُدرينا كم كذبوا بعد ذلك بشأن تايوان والتكنولوجيا والتجارة وكل ما يتعلق بالصين؟
يضلّلون هذا بشأن ذاك، ثم ذاك بشأن هؤلاء، وهؤلاء بشأن أولئك
هو نفسه حال خبر سقوط صواريخ الفلسطينيين على مستشفاهم، فلا تعتب، أخي العربي، على إعلام الشرق والغرب الذي يكرّر أكاذيبهم بشأننا ويناقشها ويدافع عن تبنّيها، ما دمنا نحن نتبنّى أكاذيبهم بشأن الآخرين، ولا نمحصها أو ننقدها.
تلك كلها لم تكن يوماً أكاذيب بالمصادفة، أو من دون سوء نية. الأمر كما لو أن ثمّة دائرة للأكاذيب الدولية تدور فيها المعلومات، فيضلّلون هذا بشأن ذاك، ثم ذاك بشأن هؤلاء، وهؤلاء بشأن أولئك، وهكذا حتى تنتشر أكاذيبهم في أرجاء واسعة من الجغرافيا، وبين أعداد كبيرة من البشر، حتى لتبدو أنها الحقيقة بكامل ألقها.
ليس هذا كله جديدا. نعم، فهم يكذبون بشأننا منذ عشرات السنين، ليس ابتداءً من القول إن فلسطين كانت أرضا بلا شعب، وليس انتهاءً بالقول إننا أمّة من الإرهابيين والهمجيين. إنهم يكذبون كما يتنفسون. أليس علينا أن نتريث، إذن، في تداول أخبارهم وتبادلها وتبنّيها بشأن "آخرين" غيرنا في أصقاع الأرض، يعادونهم، فيكذبون، بالضرورة، في شأنهم؟