دفاعاً عن الفقر
لا يسعنا غير الإشادة بالتحايل الذي يلجأ إليه أثرياء ورسميون؛ لتهوين الفقر على الفقراء، بل وجعله محبّباً أيضاً، عبر توظيف مصطلحاتٍ سهلةٍ ممتنعةٍ تصبح دارجة على الألسن من دون التدقيق في محتواها، ومن ذلك مصطلح "الوجبات الشعبية"، و"الزيّ الشعبي"، باعتبار أنّ الأغلبية الشاسعة من الشعب تتناول تلك الوجبات، وتتزيّا بهذا الزيّ، وتسعد بهما، ويمثّلان هويته التي ينبغي أن يدافع عنها، من دون أن يدرك الشعب أنّ المطلوب فعليّاً هو الدفاع عن فقره.
عموماً، ما استوقفني بهذا المصطلح تقرير إخباري مصوّر عن أمير أردني اعتاد على اصطحاب ضيوفه الأجانب إلى وسط العاصمة، حيث القلب الشعبيّ النابض لمدينة عمّان، وإطعامهم شطيرة فلافل من أحد المطاعم المعروفة بهذا النوع من المنتج "الشعبي". وفي التقرير، يبدو الضيوف غاية في البهجة والغبطة، وهم يمضغون الفلافل بتلذّذ، وكأنّ التقرير يبعث رسالة مبطّنة إلى الشعب، قوامها أنّ الفلافل الذي تحسبونه طعاماً للفقراء هو بالضبط ما يستقطب السيّاح، ويجعل من بلدكم قبلة للسياحة، وعليكم أن تفخروا بطعامكم الشعبي، وإن لم يخالطه اللحم.
كان ذلك محتوى التقرير، لكن على جانب آخر، وفي تقريرٍ لا توثّقه الكاميرات، اعتاد رجلٌ "شعبي" بعد أن ينتهي من أشغاله الشاقة طوال اليوم على شراء كيس فلافل وبعض أرغفة الخبز، مدركاً ما سيخوضُه من جولات التقريع اليومية مع أسرته التي تستقبل الكيس بامتعاض، لكنّها تضطر إلى تناوله خشية الموت جوعاً؛ لأنّه ملاذها الوحيد حفاظاً على "أمنها الغذائي".
وكثيراً ما كان أطفال صاحبنا يبدون شهيةً مستحيلة للحوم والشاورما، أو لطبخات أزيد دسماً من الفلافل، غير أنّ شهواتهم تقابل بالصدّ وضيق الحال، إلى أن حدث، ذات مساء، أن شاهد الرجل وأسرته على شاشة التلفاز ذلك التقرير الذي يحتفي بالفلافل، فانتصبت قامةُ صاحبنا بحبور، وكأنّه حقّق سبقاً علميّاً، وسرعان ما توجّه إلى أطفاله بالقول: "أرأيتم كيف يحتفي الأجانب بالفلافل، بينما أنتم تعافونه. حقّاً إنّكم لستم أبناء نعمة".
شعر الأطفال بالحرج أمام أبيهم، وبأنّهم مخطئون بأثر رجعي، فتولّى أكبرهم زمام الحديث: "عذراً يا أبي، من الآن فصاعداً لن نعترض على الفلافل، لكن حبّذا لو تأخذنا في المرة المقبلة إلى مطعم الفلافل لنعيش التجربة ذاتها التي يحسدنا الأجانب عليها".
شعر الأب بالغبطة، لهذا الاعتذار، وازداد زهوه، وبالفعل، صار يصطحب أبناءه إلى وسط العاصمة لتناول الفلافل هناك، وكأنّهم ماضون في رحلة ترفيهية ختامها الفلافل.
غير أنّ ما بدّل أقدار الأسرة، تزامن إحدى رحلاتهم الترفيهية مع تصوير تقريرٍ جديدٍ عن عظمة الفلافل. وتشاء المصادفة أن يرى مخرج البرنامج صاحبنا وأبناءه "يتلذّذون" بقضم حبات الفلافل، فشعر أنّه وقع على تغيير جديد في نمط تقديم هذه البرامج، من خلال توظيف الأسرة إياها في المحتوى. ثمّ تشاء مصادفة أخرى أن ينجح هذا التقرير نجاحاً باهراً، ويستقطب عدداً كبيراً من المشاهدين. وعندها، ارتأت الحكومة أن تستفيد هي الأخرى من هذه الأسرة التي تبيض ذهباً، فكان أن استدعت صاحبنا لمقابلة شخصية على عجل، وعرضت عليه فرصة عمل دائم لقاء أجر كبير لم يحلم به طوال حياته، على أن تتضمّن الوظيفة تناوله الفلافل مع أسرته يومياً في وسط العاصمة.
لم يصدّق صاحبنا هذه "النعمة" التي هبطت عليه من دون موعد، ووافق على الفور، وفي ذهنه أنّه سيتمكّن من تحقيق اشتهاءات أطفاله كلّها بهذا الراتب الضخم. التحقت الأسرة كلّها بعملها الجديد الذي كان يبدأ من السابعة صباحاً حتى منتصف الليل، إذ يفترشون الرصيف ويقضمون حبات الفلافل بتلذّذ مصطنع أمام الناس، ويزداد التصنّع طبعاً في حال مرور السيّاح. تحمّلوا أكداس الفلافل التي اكتظّت بها بطونهم بانتظار أول راتبٍ سيحصل عليه الأب عمّا قريب، من دون أن يغيب عن بالهم الحلم الذي راودهم طويلاً بالانقضاض على كلّ ما حُرموا منه من لحوم وطعام شهيّ لم تندرج يوماً ضمن أيّ مصطلح "شعبيّ".
... عندما تقاضى صاحبنا راتبه الأول، واشترى الدجاج واللحم والسمك، فوجئ بدورية شرطةٍ تقبض عليه بتهمة "الإخلال بشروط العقد" و"خيانة الهوية الشعبية".