سبينوزا: الحِرْمُ والجُرْم
ولد الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677) في عائلة يهودية إسبانية من جماعة الماران التي اضطرّت إلى اعتناق المسيحية، وإن استمرّت على دينها تتّبع طقوسه وتمارس شعائره في السرّ. ومثلها مثل يهود كثر في العالم، لجأت العائلة إلى أمستردام، "أرض الحرية"، حيث وجدت الانفتاح والتسامح، أمنت الاضطهاد ونعمت بالسلام. درس سبينوزا التلمود على يد الحاخام المعروف صموئيل لفي مورتيرا، وبرع في تأويل النصوص الدينية إلى درجة كانت تربك معلّميه الذين لم يكونوا ليجدوا، في أحيان كثيرة، إجاباتٍ عن تساؤلاته.
في الثالثة والعشرين من عمره، وفي السابع والعشرين من شهر يوليو/ تموز 1656، اجتمعت السلطات الدينية في كنيس أمستردام لتلقي عليه حِرماً وحكماً بتجريده من جميع حقوقه، وبإقصائه ونبذه حتى الممات. ومما جاء في نصّ الحِرم: "... ليكن ملعوناً في النهار وملعوناً في الليل. ليكن ملعوناً في نومه وفي سُهاده. ليكن ملعوناً في خروجه وفي دخوله. لا يغفر له الربّ أبداً. وليشعل الربّ على هذا الرجل كل غضبه ويصبّ عليه كل الشرور المذكورة في سِفر الشريعة: ليُمحَى اسمُه في هذا العالم وإلى الأبد، وليرضَى الربُّ بفصله عن جميع أسباط إسرائيل بأن يُنزل به كل اللعنات الواردة في الناموس. وأنتم الذين بقيتم مرتبطين بالربّ إلهكم، ليحفظكم أحياء. اعلموا أنه يجب أن لا يكون لكم أية علاقة كتابية أو شفهية مع سبينوزا. لا تقدَّم له أية خدمة، ولا يقتربنّ منه أحد أقلّ من أربعة أذرع. ولا يبقى معه أحد تحت سقفٍ واحد، ولا تُقرأ أي من كتاباته".
لا يذكر نصّ الحِرم ما الذي ارتكبه أو قاله سبينوزا ليستحقّ هذا كله، لكن الأميركي ستيفن نادلر، المتخصّص بفلسفة سبينوزا وأستاذ التاريخ في جامعة ويسكونسن، يقدّر أنه تأتّى عن تأكيدات الفيلسوف الشاب وقراءته العقلانية الكتب الدينية، منها أن اليهود ليسوا شعباً مختاراً، وأن التوراة ليست ذات أصل إلهي. والحال أن سبينوزا، إثر إقصائه ونبذه، تعرّض لمحاولة اغتيال على يد يهودي متعصّب سعى إلى طعنه بسكّين خارج الكنيس، فما كان منه إلا أن غادر مدينته ومعها جماعتَه الدينية.
في كتاب بيوغرافي بعنوان "المعجزة سبينوزا" (فايار، 2017)، يروي الكاتب والباحث الاجتماعي فريديريك لونوار أن الفيلسوفَ الذي "ابتكر فلسفة مبنية على الرغبة والفرح غيرّت مفهومنا للإله، الأخلاق والسعادة"، ما زال خاضعاً إلى ذاك الحرم الذي ألقي عليه في القرن السابع عشر، فهو يُخبر كيف اقترح رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون، عام 1953، جعل سبينوزا "الأب المؤسّس" للدولة اليهودية الجديدة، فكان أن ردّ الحاخامات بالرفض القاطع، كما احتجّوا بعنف عندما أوفِد، في عام 1956، بمناسبة الذكرى الـ 300 لإلقاء الحِرم، السفير الإسرائيلي إلى هولندا لحضور الاحتفال، حيث كُشف عن شاهدة تذكارية مموّلة من تبرّعات اليهود الإسرائيليين، في المقبرة التي دُفن فيها سبينوزا ونُقش عليها بالعبرية: "شعبك"، إلا أن بن غوريون الذي طُلب منه أيضاً في هذه المناسبة إبطال الحرم، رفض اتّخاذ هذه الخطوة باعتبارها فاشلة سلفاً، معلّلاً ذلك بالقول: "هناك شارع في تل أبيب سُمّي باسمه، ولا يوجد شخص واحد في هذا البلد لديه سبب ليعتبر أن نبذَه لا يزال سارياً".
عام 2012، طالبت شخصيات يهودية عدّة الحاخام الأكبر في أمستردام برفع الحِرم وإعادة سبينوزا إلى جماعته، فأنشأ لجنة هدفها دراسة "قضية سبينوزا"، شارك فيها رجال الدين إلى جانب فلاسفة ومؤرّخين من ضمنهم ستيفن نادلر. وفي يوليو/ تموز 2013، خلصت اللجنة إلى استحالة الأمر، ذلك أن الدوافع التي حفّزته ما زالت قائمة، ولأن سبينوزا لم يعبّر أبداً عن أدنى توبة، أو أدنى رغبة في أن يعود إلى الجالية اليهودية.