سريلانكا .. هواجس الانفجار والإصلاح
تشغل تطورات سريلانكا حيزاً واسعاً من الاهتمام العالمي، خصوصاً بعدما سرّعت الاحتجاجات الشعبية من انهيار حكم عائلة راجاباكسا، وقادت الرئيس غوتابايا راجاباكسا إلى الفرار خارج البلاد. ويبدو أن السؤال المهيمن يتمحور حول ما إذا كانت التجربة في سريلانكا ستتكرّر في غيرها من البلدان وفي أيٍّ منها. ويتساءل بعضهم، على نحو خاص، ما إذا كانت بلدان عربية ستشهد سيناريو مماثلاً في ظل انهيار اقتصاداتها وأزماتها السياسية.
اليوم يمكن رصد ما لا يقل عن 15 بلداً يشهد احتجاجات تتفاوت بزخمها ونسب المشاركين فيها، لكن المشترك بين الجميع الاعتراض على الغلاء والتضخم الذي يهز العام مسجّلاً أرقاماً قياسية بفعل تداعيات الغزو الروسي. ولكن إذا كان من درس يستفاد منه بعد الثورات العربية في العقد الماضي، وهو الأقرب إلى جهة موجة التغييرات السياسية والاقتصادية التي هزّت جزءاً من العالم، فهو أنه لا يمكن الجزم بأي أمر.
الانفجار متى ما كانت عوامله حاضرة ممكن، لكن تقدير لحظته يبقى الأصعب، لأنها قد تتأخر مهما بلغت أحوال البلدان من تغوّل في الحكم الفردي والتسلطي والاستبدادي، ومهما استشرى فساد وانهارت قطاعات، وقد ينفجر بأسرع من المتوقع. لكن الأكيد أنه لا يحدُث من دون أسباب. والعالم اليوم نظرياً مهيأ، أكثر من أي وقت مضى، لموجة هزّات سياسية واقتصادية، إذ يواجه واحدةً من أسوأ أزماته المركّبة. وبعدما أنهكت تداعيات وباء كورونا اقتصادات الدول، جاءت آثار الغزو الروسي أوكرانيا لتزيد الضغوط الاقتصادية من دون أن توفر أي دولة، من الولايات المتحدة، مروراً بالدول الأوروبية والصناعية الكبرى، وصولاً إلى البلدان النامية. لكن الأخيرة تُعَدّ الأكثر تضرراً والأقل قدرة على التكيف مع التغيرات المتسارعة بفعل واقعها. ولذلك، نظرياً أيضاً، لا يفترض أن تكون أحداث سريلانكا استثناء خلال الفترة المقبلة، فقائمة البلدان المرشّحة للانضمام إليها عديدة.
يبقى أن ما وصلت إليه سريلانكا لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة سلسلة من الأزمات والفشل الاقتصادي المتراكم، الذي بلغ ذروته قبل أشهر مع معاناة السكان من نقص في الغذاء والوقود والدواء. وإذا كانت الأزمة تجلت بهذه الصورة، فإن مظاهرها أقدم، وتتعدّد المسؤوليات عنها، ولا تقتصر على المسؤولين المحليين. يمكن أن يوجّه إصبع اتهام مباشرةً إلى الصين التي أغرقت هذا البلد في القروض والديون ضمن دبلوماسيةٍ لطالما حُذِّر منها، وخصوصاً أن بكين تستغلها لتستحوذ على الأصول الاستراتيجية للدول. ويمكن أن يوجّه إصبع اتهام آخر إلى دول الجوار، التي اختارت عندما غرقت سريلانكا أن تقف في موقع المتفرّج، ولكل منها حساباتها.
وإذا ما سارت الأزمة السياسية في سريلانكا نحو الحل، يبقى الأهم كيفية إدارة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها. الرئيس الجديد والحكومة والنواب والقوى السياسة، سيكونون جميعاً من دون استثناء أمام ضغط معالجة الأزمات التي تنهش البلاد، وهو ما يقود إلى سؤال آخر، ستجد النخبة الحاكمة نفسها أمامه: هل هي مستعدّة لخوض تجربة الإصلاح بمستوياته المختلفة وتحمّل ما يتطلبه؟ فمن دون إصلاح سياسي واقتصادي حقيقي يشكل قطيعة مع حكم عائلة راجاباكسا وممارساتها لا يمكن تصوّر أي مخرج مستدام لسريلانكا من ورطتها.
لا توجد وصفة سحرية للإصلاح، ولا توجد مؤسسة خارجية مثل صندوق النقد الدولي، ستكون أدرى بأحوال سريلانكا وما تحتاجه بعد كل ما مرّت به منذ استقلالها. التغيير يفترض أن يبدأ من الداخل. وقد أثبتت تجارب دول عديدة واجهت أزماتٍ كهذه أن تجاوزها ممكن رغم التكلفة المرتفعة، لكن الأمر يتطلب إرادة سياسية ودراية اقتصادية.