سلطة خارج الخدمة
لا وضع الله أحدًا مكان "السلطة" الفلسطينية هذه الأيام، فقد بلغ أمر استصغار شأنها حدّ أن يستبعدها بيبي نتنياهو من أيّ دور في إدارة قطاع غزّة بعد انتهاء الحرب، على اعتبار أنه حسم أمر "الانتصار".
والحال أنني لا أدري إذا كانت السلطة قد هاتفت "البيبي" معاتبة أو لائمة له على هذا التهميش، بحكم العشرة الطويلة التي أثمرت تنسيقًا أمنيًّا لا يشقّ له غبار. ولا تثريب عليها إن فعلت؛ لأنها كانت من أشدّ المتحمّسين في بداية العدوان لطرح نفسها بديلًا لحركة حماس، بوصفها سلطة "مجرّبة" من إسرائيل، وتحظى بالرضا والثناء، ما يحتّم على تل أبيب مكافأتها بهذه الإدارة، ولا سيما أن قطاع غزّة جزء من أراضي "دولة فلسطين" المتفق عليها في "أوسلو"، أصلًا، وما تفعله إسرائيل ليس أزيد من المساعدة على إعادة "الفرع" إلى "الأصل".
هكذا خيّل إليها، وهي ترفع سمّاعة الهاتف، معتقدة أن لها من "المكانة" ما يؤهلها للعتاب والغضب، وضرورة إعادة المراجعة من "شركائها" الذين أكلت معهم الخبز والملح، وأدّت لهم من الخدمات الجليلة ما يفوق الوصف في حماية أمن إسرائيل من "العابثين" في الضفة الغربية، 20 عامًا، استطاعت فيها إخضاع الشعب، وإجهاض المقاومة، وتسليم المطلوبين، فماذا تريد إسرائيل أزيد من ذلك لتضعها في مقدّمة المرشّحين لإدارة قطاع غزّة، فضلًا عن أن شريكها نتنياهو يدرك أن لدى السلطة ثأرًا شخصيًّا مع المقاومة في القطاع، التي انقلبت عليها عندما أرادت إخضاعها على غرار ما فعلت في الضفة، وتطمح إلى "غسل العار" الذي لحق بها.
كان هذا كلّه يدور في خلد السلطة، وهي تستمع إلى رنين الهاتف في الجهة المقابلة، غير مدركة أن "المؤهّلات" التي تحملها مسوّغات ترشيح إلى شريكها نتنياهو هي ذاتها "المنفّرات" التي دفعت الأخير إلى استصغار شأنها في إدارة القطاع، وإن لم يكن ذلك بطريقة مباشرة.
باختصار، لم تدرك السلطة الفرق بين رئاسةٍ يحملها الشعب إلى القيادة، وسلطة يفرضها العدوّ على الشعب. ... لم تعرف أن إسرائيل أرادتها سلطة ضعيفة منزوعة الأنياب، لا تقوى إلا على قمع شعبها فقط، مُجرّدة إياها من كل عوامل القوّة الحقيقية، وأدوات السيادة، فلا سلاح ولا تسليح إلا بقنابل الغاز والهراوات، ولا قرار يرسم مصيرًا أو يقاوم مصيرًا تشاؤه إسرائيل، ولا عمل لوزارتها وأجهزتها "البلدية" إلا تنفيذ الإملاءات من تل أبيب.
ومع طول أمد الانحناء والامتثال الأعمى لإرادة "الوصيّ" الذي يسرح ويمرح في مدن الضفة الغربية وقراها بجنوده ودبّاباته لملاحقة المقاومين، أو لمجرّد "النزهة" أحيانًا، تقزّمت السلطة تمامًا امام إسرائيل، حيث لا قامة سياسية أو اقتصادية لها، لأنها تنتظر رواتبها من المحتلّ الذي يتحكّم بإيراداتها ومدفوعاتها، وصادراتها ووارداتها، ويحكم إغلاق منافذ مدنها بحواجزه العسكرية التي تقرّر وحدَها ساعات الفتح و"التشمّس".
ولأن السلطة على ما هي عليه اليوم، ولأن نتنياهو يدرك أن قطاع غزّة الذي أفلت من حكم السلطة 20 نحو عامًا اعتاد فيها المقاومة، والتمرّد، ورفع "السبّابة" عند أدنى تهديد أو اعتداء، لا يمكن إخضاعه بسلطة هشّة منزوعة العظم على غرار السلطة الحالية.
أبعد من ذلك، لم تدرك السلطة، أيضًا، أن عهدها بات في طوْر الاحتضار الفعليّ، حتى في الضفّة نفسها، سواء انتصرت المقاومة في غزّة أو لم تنتصر، فما يرشح من ترتيبات، ومنها أميركية، تشي بضرورة إعادة بناء السلطة الفلسطينية على أسسٍ مغايرة، لا مكان فيها للرموز الحالية التي لم تعد تحظى بأدنى قبول شعبيّ، فهي لم تكن أزيد من مرحلة انتقالية أدّت مهمتها، وانتهى دورها.
فات هذا كله السلطة وهي تحمل سماعة الهاتف بانتظار "البيبي".. أمّا الردّ فجاء صاعقًا: "نأسف أنتم خارج الخدمة".