سيوران وهتلر
"إن مصدر إلهام الكاتب هو خزيه"! هذا ما كتبه الفيلسوف الروماني الأصل إميل سيوران، ملمّحاً إلى مرحلة من شبابه أعجب خلالها بألمانيا النازية، في حين رأى في بلاده "جغرافيا وليس تاريخا"، وبلادا صغيرة، تافهة، لا تتمتّع بقدَرٍ عظيم، مثلما هي حال بلدان أخرى.
ولد إميل سيوران عام 1911 في قرية أرشانا، ابنا لكاهن أرثوذكسي وأم غنوصية، وعاش على عكس ما نتوقّع، طفولة سعيدة جداً شكّلت لاحقاً جنّته المفقودة حيث عرف المغامرات البرية في الحقول والجبال غير المأهولة، وقد فقدها مُرغما في العاشرة من عمره، عندما غادر إلى المدرسة الثانوية في المدينة، واعتبر ذلك كارثة كبرى زلزلت حياته ومأساة مفجعة استمرّ يحمل أثرها حتى مماته. لقد تخلّلت مراهقته نوبات يأس وانهيارات عصبية ودموع، وقضى حياته شابّا في المكتبات وفي غرفته يعاني من الأرق واليأس. بعد نيله شهادته الجامعية في الفلسفة من بوخارست، حصل على منحة دراسية من مؤسسة هومبولت، فغادر إلى ألمانيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1933 حيث مكث في برلين وميونخ. هناك، تعرّف سيوران إلى النازية، وأعجب بها جدا، حتى أنه قال عن زعيمها: "أعتقد أن عددا قليلا من الناس - حتى في ألمانيا، لديهم إعجاب بهتلر أكثر مني" (مارس/ آذار 1937). وقد جعلته مسيرات الشباب بالزي الرسمي والأحذية الجلدية، شديد الحماسة والإحباط في آن، إذ جعل يقارن بينها وبين ضعف القومية الرومانية.
عام 1935، عاد سيوران إلى رومانيا حيث أتم خدمته العسكرية، ليقوم من بعدها بتعليم الفلسفة مدّة عام في المدرسة الثانوية في مدينة براشتوف، وبنشر كتابه "دموع وقدّيسيون" الذي تسبب بفضيحة بسبب نبرته التجديفية، فما كان منه إلا أن تحصّل عام 1937 على منحة جديدة للذهاب إلى فرنسا والعمل على أطروحته هناك. لم يكمل سيوران تلك الأطروحة، وسافر بدلاً من ذلك في طول البلاد وعرضها فوق درّاجة. في نهاية 1940، عاد إلى رومانيا مرّة واحدة، ثم غادرها في فبراير/ شباط 1941 ولم يعد إليها...
لاحقا، سعى سيوران صادقا إلى فهم أسباب هذا الانبهار الشبابي بهتلر والنازية، برغم رفضه التعبير عن ندمه علناً، مفضّلا التكفير الطويل الصامت. بعد وفاته، عثرت زوجته على نص مكتوب بخط يده بعنوان "بلادي"، يعود تاريخه إلى خمسينيات القرن العشرين، وفيه يواجه سيوران أخطاءه الماضية، حيث يقول: "وهكذا حدث لي، قبل وقت من بلوغي الثلاثين، أن كان لديّ شغف ببلادي، شغف يائس وعدواني عذّبني سنوات. [...] أردتها أن تكون قوية ومجنونة مثل قوة شريرة، أن تكون قدرا محتوما يجعل العالم يرتجف. لكنها كانت بلادا صغيرة، متواضعة، دونما مواصفات تصنع لها قدرا استثنائيا"...
هذا ولا ننسى أن سيوران شكّل جزءا من مفكّري أوروبا الوسطى وفلاسفتها الذين وفّروا الأسلحة الفكرية لمحاربة العمى الأيديولوجي الطوباوي الذي أدّى إلى نشوء حرب عالمية. ومع ذلك، لا بد لمن قرأوا سيوران واطّلعوا على فلسفته وأفكاره المغرقة في السوداوية والعدمية والتشاؤم، أن يتساءلوا كيف أمكن رجلا لا يؤمن بأي شيء، ويحتقر السياسة وتفاهاتها، ولا يعترف سوى بأهمية أمر وحيد هو هوس نهائية الحياة واختلاطها بالموت، أن يصرّح: "لا شيء أكثر بهتانا وإحزانا من شبيبة فاقدة للشغف السياسي"؟
نعم، إنه سيوران نفسه الذي قال: "أنا فيلسوف صارخ، وأفكاري إن وجدت، تنبح. وهي لا تشرح شيئا، بل تنفجر"، مضيفا في كتابه "تاريخ ويوتوبيا" "الفلاح الروماني على حقّ، فهو لا يؤمن بشيء، ويرى أن الإنسان محكومٌ عليه سلفا، ولا يستطيع شيئا، وأن التاريخ يسحقه"...