صنم الحرية وتمثال صدّام
ليس ثأراً ما فعله الجندي العراقي الذي احتلّ أميركا، عندما كان أول ما فعله التوجّه إلى تمثال الحرية الذي يرفع الشعلة بيمينه، ثم اعتلى ظهر دبّابة، وبيده علم بلاده، وطلب من قائد الدبابة أن يرفعه على الفوهة إلى الأعلى في مواجهة وجه التمثال تماماً.
في الأسفل، كانت الجموع التي تهتف تأييداً لما يفعله الجندي العراقي تنتظر أن يغطّي وجه التمثال بالعلم العراقي، ثم يوعز إلى قائد الدبابة بالتحرّك لسحب التمثال المشدود إلى الدبابة بحبل غليظ، كي يهوي على الأرض، لتكتمل دائرة الثأر، وتنغلق على المشهد ذاته، الذي حدث قبل 20 عاماً، وبالسيناريو نفسه، مع الجندي الأميركي الذي اعتلى هو الآخر فوّهة مدفع، إلى أعلى تمثال الرئيس العراقي صّدام حسين، ليطمس وجهه بعلم أميركي، وليسقط التمثال سحباً، ثمّ جرّاً في شوارع بغداد، غير أن ما فعله الجنديّ العراقي بتمثال الحرية كان مختلفاً بعض الشيء، وهو ما فاجأ الجموع المحتشدة، ولكن دعونا لا نستبق الأحداث، فسنعرف ذلك لاحقاً؛ لأن القضية ليست ثأراً.
قبل ذلك، علينا أن نعرف الإجابة عن هذا السؤال: ما الذي سقط بالضبط قبل 20 عاماً؟ صدّام حسين ونظامه، أم العراق كله، أم ثمّة شيء آخر أعظم أهمية من كل ما رأينا؟ للإجابة، ربما علينا أن نعرف، كذلك، لماذا اختار المحتلّ قصور صدّام حسين مقرّاً لقيادته بعد احتلال العراق، لأن الإجابة هي مفتاح اللغز كله، وراء هذا الغزو الذي جاء بمسوّغات أخلاقية، بينما الأخلاق كلها بريئة من هذا الزعم.
أرادت أميركا من هذا الخيار إقناع العراقيين بأنها ستحوّل القصور التي كان يصدُر منها "الاستبداد" إلى واحة للحرية، ولتكسر ثقافة الرعب التي صاحبتهم طوال عهد الرئيس المُطاح. كانت تريد أن تقول: ها هي القصور المغلقة على "الحاكم بأمره" أصبحت مفتوحة أمامكم، بعد تطهيرها من الطغاة.
أما المفتونون بصدّام من العرب وغيرهم، الذين كانوا يشاهدون ما يحدُث للصنم، وهم يتميّزون غيظاً أمام الاجتياح الأميركي السريع لبغداد، فرأو أن ثمّة رسالة أخرى، مفادها الإذلال، لأن المقصود إسقاط رهاناتهم مع الصنم نفسه، على زعيم وعدهم بمقارعة الإمبريالية والرجعية، وتحرير فلسطين.
ولكن، بعد 20 عاماً من الاحتلال الأميركي للعراق، ثبت أن ما سقط، فعلاً، هو أخلاق المحتلّ نفسه، بعد أن كشف الدم العراقيّ المسال، وقذائف اليورانيوم المخضّب، والأسلحة الفتّاكة، حرامها وحلالها، عن أن الحرية التي تشدقت بها أميركا من غزوها الوحشيّ كانت آخر ما يخطر في بال ساستها وهم يحشدون لحملتهم الظالمة على هذا البلد المبتلى طوال تاريخه باستبدادين، داخليّ وخارجيّ، على الدوام.
لم يكن اختيار أميركا القصور مركزاً للقيادة مصادفة، بل ثبت فعليّاً أنها تريد مواصلة الاستبداد من المكان نفسه، ولكن بصور أخرى، ولغايات أشدّ قباحة ومكراً، فقد مزّقت البلاد والعباد بفتنة المحاصصات الطائفية والعرقية، وشجّعت على الفساد الذي لم يشهد العالم مثيلاً له، وأبقت على العراق ضعيفاً هشّاً، قابلاً للتدخّلات الخارجية، ودمّرت حضارته ومتاحفه، وجعلت أرضه مختبراً لأسلحتها الفتّاكة، واستنزفت موارده النفطية، وأفقرت شعبه، ثم الأهم أنها أزاحت من أمام إسرائيل ثاني أكبر تهديد عربيّ لها بعد مصر.
في المحصلة، وبعد 20 عاماً على "غزوة الحرية" التي جرّدتها أميركا ضدّ بلد من العالم الثالث، تحت شعار "تصدير الديمقراطية"، تبيّن أن الشعب العراقيّ لم يتنعّم بالحرية ولا بالديمقراطية الحقيقية، التي وعده المحتلّ بها، لقاء إذعانه وخضوعه، وأن التقسيم بات أمراً واقعاً بعد الانفصال الكردي القائم عن الدولة الأم، في موازاة دعواتٍ أخرى إلى الانفصال الشيعي جنوباً.
على ذلك، لن يكون مشهد الجندي العراقي أمام "صنم" الحرية الذي تخدعنا به أميركا مستغرباً وهو يحمل العلم العراقي ليردّ الصاع صاعين على دولة عظمى، لكنّ أعظم ما فيها هو الكذب والدجل. أما المشهد الأخير الذي جاء مغايراً لما فعله الجندي الأميركي، بعض الشيء، فتمثّل بأن الجندي العراقي لم يطمس وجه التمثال بالعلم، بل طمس شعلة الحرية الأميركية الكاذبة.