صِدام الجنراليْن المحتوم
تفجّرت في السودان الحرب المحتومة. بدأت إرهاصات تصادم الجنرالين مبكّراً. وكان كثر، عن حسن نية أو سذاجة سياسية، يتصوّرون أن الحرب لن تقع. كان أصحاب هذا الرأي يستندون إلى حجج عدّة، منها عدم تفريط الطرفين بالمكاسب التي حقّقاها منذ مرحلة ما بعد إطاحة عمر البشير ثم انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وأنهما سيجدان عندما تشتدّ الأمور تسويةً تمنع الاقتتال بينهما. ولكن أحداث الأيام الماضية دلّت على عدم صحة الرهانات على أي تعقل لدى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان أو قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).
يخوض الطرفان الحرب بينهما على قاعدة ضرورة إلغاء الآخر وكسره، فبقاؤهما في المشهد نفسه في الفترة المقبلة ليس في مصلحة أي منهما. ... من أطلق الرصاصة الأولى؟ ولماذا؟ سؤالان أصبحا من الماضي، فالسودانيون، وتحديداً سكان العاصمة ومحيطها، يعيشون، منذ السبت الماضي، على وقع اشتباكات بين أحيائهم تنال منهم من دون استئذان، إذ حوّلتهم إلى مجرد رهائن ينتظرون الحكم الذي سيصدُر بحقهم. بروفا الهدن لم تثبت نجاحاً. وكما في كل الحروب، تحتاج وقتا حتى تتأمّن متطلبات صمودها والبناء عليها للانتقال إلى طاولة الحوار إن بقيت فرصة لذلك. وبانتظار تحقّق ذلك، يستعمل الطرفان كل ما يملكانه من أوراق ضغط عسكرياً وسياسياً. وإذا كان البرهان يتسلّح بأنه "الشرعية" ويواجه تمرّد المليشيات بصفته قائد الجيش السوداني، فإن حميدتي يصوّر نفسه حامي الديمقراطية في البلاد، وأنه من يدفع ثمن تمسّكه بالمسار السياسي على عكس البرهان. والمشكلة أن استطلاع مواقف بعض الشخصيات السودانية في الأيام التي تلت بدء الاشتباكات أظهرت آراءً يمكن الاستنتاج منها أن هناك قوى سودانية تصدّق سردية حميدتي ومستعدّة للدفاع عنه وعنها، مقابل آراء أخرى تدافع عن البرهان وممارساته. ويحيل ذلك إلى مكمن خطورة ما جرى في السودان طوال الأشهر الماضية، عندما ارتضت القوى السياسية المنخرطة في التسوية مع العسكر بشقّيه أن تكون الطرف الأضعف في المفاوضات، وتخلّت عن ورقة الشارع التي أثبتت مراراً وتكراراً نجاعتها في إسنادها ومنحها قوةً ووضع العسكر تحت الضغط. ولكن، عندما خسّرت نفسها عمداً هذه الورقة وجد العسكر أنفسهم في مأمن من الضغط، وحاولوا الاستفراد بالقرار السياسي، وحتى القوى المدنية. ولجأوا إلى تسويفٍ تلو الآخر، حتى حانت لحظة الخلافات الحقيقية بين البرهان وحميدتي، فظهرت التباينات بشأن دمج قوات الدعم السريع في الجيش، ورفض الطرفان أي حل وسط، لتتفاقم الأزمة سريعاً، وتتحوّل هذه القوى إلى مجرّد متفرّج لا قدرة لها على أداء دور في تحديد مصير البلاد.
تعيد الاشتباكات الجارية في السودان، أيا كانت نتيجتها النهائية، التذكير بخطورة وجود تشكيلات عسكرية رديفة إلى جانب الجيش، سواء أكان وضعها مقنّناً كما في حالة "الدعم السريع" أم لم يكن مقنّناً، لأنها، في النهاية، تبقى مليشيات تزاحم الجيش، وكلما اتسع نفوذها وأدوارها اقتطعت من رصيد سلطة الجيش ونازعته على القرار بانتظار لحظة الهيمنة أو الصدام. ويصبح الوضع أكثر خطورةً عندما تمتلك هذه المليشيات، كما حال "الدعم السريع"، أدواراً ومصالح اقتصادية تتيح لها استقلالية تامة ويتعاظم خطرها، لأن الموارد التي تستحوذ عليها تتيح لها الصمود طويلاً في أي مواجهة، وإطالة عدم الاستقرار والفوضى الأمنية في الحد الأدنى، لأن السيناريوهات في بلدٍ مثل السودان، سبق أن انقسم، تبقى مفتوحةً على أخطر الاحتمالات.