طالبان والغرق في الماضي
تصرّ حركة طالبان على إقصاء النساء من معظم مظاهر الحياة. لا تعليم جامعيا أو ثانويا، لا عمل في المنظمات غير الحكومية. وقريباً، يمكن توقع قرار عدم السماح لهن بالخروج من المنزل. تصرّ الحركة، بصفتها السلطة الحاكمة الجديدة - القديمة، على اتباع هذا النهج الإقصائي غير آبهة بجميع ردود الفعل الدولية المندّدة. وبالطبع، لا تضع في اعتبارها أي حسابٍ لموقف النساء. وكلما مضى وقت قصير على تمرير أحد إجراءاتها أصدرت قراراً جديداً أشدّ تهميشاً للنساء.
يجوز التساؤل عما تفعله حركة طالبان اليوم بحقّ النساء الأفغانيات، والإدانة، ورفع الصوت عالياً، والتهديد بعواقب. وفعلياً، لا يجوز الاستغراب فهذه "طالبان". ما تقوم به ليس مفاجئاً. إنها تعود تدريجياً إلى جميع ممارساتها المتشدّدة التي كانت قائمة إبّان حكمها أفغانستان حتى سقوطها بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، بما في ذلك تطبيق أحكام الشريعة من إعدام علني وجلد تنفيذاً لأوامر زعيم الحركة هبة الله أخوند. ما يعني أن ما يحدُث ليس اجتهاداً خاطئاً لمسؤول هنا أو هناك، بل تصدُر القرارات من أعلى سلطة فيها.
المصدومون وحدهم، وعلى الأرجح هم قلة، هم من كانوا يعتقدون أو يراهنون على أن الحركة بعد عودتها إلى الحكم ستكون أكثر براغماتية، وتدخل تغييراتٍ على سلوكياتها. ولكن هذا لم يحصل. فلماذا تتغير الحركة ولأجل مَنْ؟ تعتقد "طالبان"، أن لا أحد، رغم ضجيج التصريحات هنا وهناك، سيخوض حرباً جديدة معها من أجل موضوعٍ كهذا.
كما أن العواقب ليست مباشرة عليها، وبالتالي تستطيع التكيّف معها، فالمتضرّر من تداعيات قرار الحركة حظر عمل النساء وما استدعاه من تعليق منظمات عملها في البلاد يضرب جهود المساعدات والإغاثة. والحركة، إن أبدت في تصريحات استعدادا للتراجع عن القرار، بحسب تصريحات لوزير الاقتصاد في حكومتها، قاري الدين محمد حنيف، نقلتها وكالة الأنباء الألمانية، عبر الحديث عن استثناءات من قرار الحظر، إلا أنه لا يمكن الركون إلى أن ذلك سيدوم طويلاً. ولذلك سيبقى الشعب من يضطرّ إلى تحمل تداعيات قرارات الحركة، ويدفع ثمنها بغض النظر عن رأيه فيها.
عملياً، ما تقوم به الحركة يقود إلى استنتاج وحيد. تريد العيش في الماضي فقط، لا يعنيها أي مستقبل للشعب الأفغاني، إلا إن كان صاغراً طوع أمرها ينفّذ ما تريد فقط من دون أي اعتراض. ويبدو هذا الأمر منطقياً، فما التطور الذي طرأ على الحركة منذ سقوط حكمها وحتى عودتها إلى الحكم في 2021؟ هل أجرت الحركة مراجعاتٍ لسلوكياتها، وخلصت إلى أنه يجب إدخال تصحيحات عليها؟ بالتأكيد، لم يحدث ذلك سابقاً، ولا يمكن توقعه في أي مدى قريب. كانت "طالبان" غارقة، على مدى عقدين، في الحروب والمعارك، وتثبيت مناطق نفوذها حتى تحين لحظة عودتها إلى الحكم كما حصل في أغسطس/ آب 2021.
أثبتت الحركة أنها براغماتية فقط عندما يقود ذلك إلى تحقيق ما تريده، فلم تجد مانعاً من التفاوض مع الأميركيين على انسحابهم من أفغانستان، وحتى تقديم الضمانات الأمنية التي طلبتها واشنطن، بغض النظر عما إذا كانت قد التزمت بها الحركة أم لا، خصوصاً بعدما تبين أن زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، كان يقيم بعد عودة "طالبان" إلى الحكم في كابول، قبل أن تتنصّل الحركة بعد الغارة الأميركية التي استهدفته على شرفة المنزل في أغسطس/ آب 2022 من أي مسؤولية عن وجوده في العاصمة الأفغانية، حتى إنها نفت العثور على جثته!
النساء في آخر قائمة اهتمامات الحركة. ولذلك يمكن توقع أن الفترة المقبلة ستحمل معها مزيداً من الأخبار السيئة لهن. رغم ذلك، يبقى هامش مقاومة قرارات الحركة، تحديداً للواتي يعشن في كابول، قائماً، بل خياراً لا مفرّ منه من أجل مستقبلهن ومستقبل جيل كامل من الفتيات سيواجهن كل مظاهر الإقصاء من الحياة.